آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » من عيادة الطب إلى عوالم الأدب الروسي.. المترجم إبراهيم إستنبولي: أحلم بتقديم ترجماتي إلى دور نشر ترغب بنشر الكتاب أكثر من بحثها عن الربح

من عيادة الطب إلى عوالم الأدب الروسي.. المترجم إبراهيم إستنبولي: أحلم بتقديم ترجماتي إلى دور نشر ترغب بنشر الكتاب أكثر من بحثها عن الربح

في عالم الأدب الواسع، يبرز اسم إبراهيم محمود إستنبولي جامعاً بين العلم والترجمة، طبيبٌ وناقد أدبي يجسد المزايا المتعددة للفن، ويستلهم من عبقرية أنطون تشيخوف، ليعكس تعبيرات إنسانية عميقة من خلال أعماله الأدبية. حيازته على “جائزة الفارس الذهبي”، تعكس مكانته الرفيعة في الساحة الثقافية، ويؤكد تفوقه في “مسابقة سامي الدروبي” أن الأدب لا يتقيد بالحدود، في حين يسهم تفاعله الدائم وإبداعاته المثمرة في إثراء ثقافة الترجمة، والتي تمخضت عن 30 ترجمة لمؤلفين روس بارزين، مسافراً بالثقافات عبر اللغات.
في هذا الحوار، سنغوص عميقاً في عالمه الأدبي، نستكشف شغفه، تحدياته، ورؤيته حول مستقبل الأدب، ونعرف سوياً كيف يتفاعل الطب والأدب في فكر المبدعين.
• من الطب النفسي إلى الترجمة والتأليف ماالدافع الذي جعلك تختار ترجمة الأعمال الأدبية والعلمية والدراسات الروسية إلى العربية؟
– يبدو لي أنَّ الإجابة على هذا السؤال تحتاج للغوص في أعماق النفس عند إبراهيم الطفل، الذي نشأ وترعرع في بيئة غنية بكل عناصر الجمال والسحر في المجتمع والطبيعة، وتشرّب من التراث الشعبي ما يكفي لأن يسافر بخياله إلى أصقاع الأرض وأن يطرح عقله الصغير أسئلة تتعلق بهذا الكون، تدور حول الظلم والعدل والجمال، دون أن يجد أجوبة، لاسيما أن العقل كان بسيطاً وبدائياً، ولم نكن نملك في تلك الفترة أي وسائل للمعرفة، وبالطبع لم تكن ثمة كتب في القرية يمكن أن يسافر العقل عبر صفحاتها إلى مصادر العلم والمعرفة… لم يكن هناك سوى القرآن الكريم وقصص أبي زيد الهلالي والزير سالم وما شابه.

المترجم إبراهيم استنبولي: الترجمة الأدبية تعزز الحوار بين الشعوب.. وتفتح أبواب الفهم المتبادل

كم مرة وقف الطفل إبراهيم إستنبولي في الصباح الباكر أمام منزل العائلة المؤلف من غرفتين ونصف، وراح يحدِّق في البعيد، ويتأمل الأفق متسائلاً عمّا يوجد هناك، خلف البحر وخلف الجبال ووراء الأفق.. وكم مرة ذهب ليلاً إلى المقبرة لكي يختبر شجاعته، ولكي ينظر إلى الأموات يقومون من قبورهم في أوقات محددة من الليل… ودون أن يعثر على شيء أو على أحد.. ومع ذلك، كانت تنشأ لديه أسئلة عن الليل والموت، وعن الخوف والخرافات التي كان يسمعها من أفواه الكبار، هذا ما جعل الفتى إبراهيم إستنبولي يبحث عن أجوبة في كل مكان وفي أي كتاب أو مجلة، فكان يحرص على قراءة كل ما تقع عينه عليه… ولهذا السبب، غالباً، مضى إبراهيم إستنبولي الطبيب بطريقة لا شعورية في اتجاه الطب النفسي، ظنّاً منه بأنه سيساعده في العثور على أجوبة للأسئلة التي لطالما أثارت عقله الطفلي وتتعلق بأسرار هذا الكون وبخفايا النفس والجوانب المظلمة في حياة الإنسان الخ. ولهذا السبب راح الطبيب إبراهيم إستنبولي يلتهم بنهم ما وفرته له اللغة الروسية وتالياً المكتبة السوفييتية من كتب في الأدب والفلسفة والتاريخ، ولهذا كان أول كتاب أريد ترجمته بعد أن قرأته وأنا طالب في السنة الثانية في كلية الطب البشري في موسكو أواخر السبعينات من القرن الماضي يتعلق بعقل الإنسان وذاكرته، ولكني لم أفعل بسبب الانشغال في مهنة الطب من ناحية، وبسبب الكسل من ناحية أخرى، وعندما اكتشفت مطلع التسعينات أن الكتاب ترجمه شخص آخر شعرتُ بالحزن لدرجة كبيرة، ونزعت فكرة الترجمة من ذهني. وعندما قرأت رواية الكساندر كوبرين “سوار العقيق”، ربما عام 1981، قررت ترجمتها لشدة إعجابي بها. ولكن الرغبة في ترجمة ما قرأته كان يحيا في أعماق اللاشعور عندي، ولذلك بدأت في منتصف التسعينات، ولو كان بشكل غير منتظم، بترجمة كتاب قرأته وأثار إعجابي لكثرة ما فيه من معلومات علمية وعامة ومخصص للناشئة بعنوان “ثلاث عشرة قطة سوداء”. ولأنه كان يناقش أساطير الخلق والأديان، والطوطمية الخ، خشيت ألا يحظى برضى القراء، لذلك طلبت من رجل دين وأديب كنت أعتبره مفكراً أكثر منه رجل دين (الباحث والشيخ الجليل أحمد علي حسن رحمه الله) أن يكتب مقدمة له، وبعد أن قرأه قال لي بالحرف: يحتوي من المعلومات والمعارف العلمية والتاريخية أكثر من جميع الكتب التي قرأتها!. صدر عام 2008 عن دار المدى، وكان عرابه إلى النور الشاعر السوري الراحل بندر عبد الحميد رحمه الله، وكم أتمنى أن يعاد إصداره لشدة الحاجة إلى مثل هذا الكتاب بالنسبة للناشئة، وتحديداً في هذه الفترة من تاريخنا.

“أشعر بالأسى.. فأنا عملت ثلاثاً وثلاثين سنة في الطب.. ولكن راتبي التقاعدي لا يسمح لي بأن أعيش حياة كريمة”

• ما هي التحديات الأكبر التي واجهتك عند ترجمة أوائل القصص القصيرة لدوستويفسكي (الليالي البيضاء)، نصوص ألكساندر كوبرين و الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، حدثنا عن خصوصيتهما الأدبية أثناء الترجمة؟
– هناك فرق بين الأعمال المذكورة، ومع ذلك يمكن القول إنني لم أجد تلك الصعوبة الكبيرة عند ترجمتها، لأنني قمت بترجمتها بعد أن قطعت شوطاً لا بأس في مسيرة الترجمة. ولكن تبقى “الليالي البيضاء”، ربما، أكثرها صعوبة، إذ إنّ لغة دوستويفسكي الأدبية أكثر صعوبة غالباً من غيرها.. أما اللغة في روايات كوبرين فهي أكثر سلاسة وأكثر وضوحاً.. أما بخصوص أشعار رسول حمزاتوف فيمكن القول إن اللغة الشعرية سهلة عنده، ومن النادر أن يجد المترجم صعوبة في ترجمة أشعاره، اللهم إلا إذا كان يجهل ألف باء اللغة الروسية. خصوصاً عندما يحدث تقديم صورة شعرية أو تأخيرها في القصيدة. وهذا معروف في الشعر العربي.
• قرأت لك ترجمة مميزة لقصائد مختارة لأهم الشاعرات الروسيات مارينا تسفيتاييفا، هل ثمة فرق ملموس في نقل قصيدة الشاعرة عنها للشاعر؟

– مارينا تسفيتاييفا -شعراً وسيرة حياة- عشقي الذي لم يبهت خلال حوالي نصف قرن تقريباً. أحببتها بفضل مدرّسة اللغة الروسية. تلك المدرّسة التي غرست لدي عشقاً لا يزول للأدب الروسي عموماً، وللشعر منه خصوصاً. وأنا مدين لها في شغفي العميق بكل ما يتعلق بالأدب الروسي. أنا متيم بمارينا تسفيتاييفا وبكل ما يتعلق بها. وقد أطلقت عليها قبل حوالي ربع قرن لقب “قديسة الشعر الروسي”. و”أيقونة الشعر الروسي”. وهي، بالمناسبة، أعظم بكثير من الشاعرة الروسية الأكثر شهرة آنا أخماتوفا. وهذا حديث آخر، لن يفهمه كثيرون. آنا أخماتوفا عاشت حياتها “بالطول والعرض” وكانت محاطة باهتمام ورعاية “أقوياء هذا العالم”. في حين أنَّ تسفيتاييفا كانت ضحية السلطة والكبرياء. ولذلك عنونتُ الكتاب “كبرياء جريح”. كثيراً ما أقرأ عنها في مواقع وصفحات روسية. وأتمنى أن أنقل ما أقرأه عنها للقارئ العربي. لكن الوقت لا يسمح. لأننا نحن المترجمين، للأسف، نعمل في الترجمة لكي نعيش ولكي نضمن ثمن خبزنا وقوت أطفالنا. نحن لا نترجم ما نتمنى. وأنا أشعر من هذه الناحية بالأسى. فأنا عملت ثلاثاً وثلاثين سنة في الطب. ولكن تقاعدي لا يسمح لي بأن أعيش حياة كريمة. بل إنّ تقاعدي لا يكفي لأيام. كلنا في هذا الهمّ سواء. مصيبة كبيرة كانت تحل ببلدنا العظيم سوريا. والجميع يدفعون الثمن باهظاً. سوف أعود إلى مارينا تسفيتاييفا في أقرب وقت. وسوف أصدر ترجمة لعدد أكبر من قصائدها. إنها شاعرة عظيمة. وهي تستحق كل التماثيل التي أقيمت لها في أكثر من مكان ومدينة في روسيا.

تأثير الأدب الروسي
• ما أبرز الموضوعات الثقافية التي امتاز بها الأدب الروسي، تراها تستحق المزيد من الاهتمام في العالم العربي؟
– الأدب الروسي خالد. وسيبقى خالداً. لأنه يتناول آلام الإنسان وما يتعرض له من أفراح وأتراح، من خيبات ونجاحات، وما يعاني منه المجتمع البشري من أمراض وقهر وقسوة. إنه يتطرق لمواطن الجمال والحب والسعادة في النفس البشرية.

مارينا تسفيتاييفا – شعراً وسيرة حياة – عشقي الذي لم يبهت خلال نصف قرن

أما الموضوعات التي امتاز بها الأدب الروسي – فيمكن تلخيصها في التمسك بقيم الجمال والمحبة، والدعوة إلى الخير والعدل والتواضع. وأكبر مثال على ذلك، أعمال الكاتب العظيم ليف تولستوي وقصص الكاتب العظيم الآخر أنطون تشيخوف.
أعتقد أنهما جسّدا في أعمالهما عظمة الروح الإنسانية وقوة الإرادة في أعمالهما. وأضيف إن روايات تولستوي ودوستويفسكي تمثل أنموذجاً للإبداع الروائي الذي يتناول حياة الناس على اختلاف انتمائهم الاجتماعي… فضلاً عن تناول مختلف القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وبالعلاقات بين الناس وغير ذلك.
• كيف ترى تأثير الثقافة الروسية على الأدب العربي من خلال ترجماتك، وما هي الأمثلة التي تعكس هذا التأثير بشكل قوي؟
– أعتقد أن أبناء جيلين كاملين من المثقفين والكتّاب العرب تأثروا بالأدب الروسي… وبالثقافة الروسية بصورة عامة. وهذا أمر يمكن لنا أن نلمسه في أعمال العديد من الكتاب والمبدعين العرب في المسرح والسينما، ناهيك عن الفكر والسياسة. وقد اتضح هذا التأثير بدرجة كبيرة في فترتين مختلفتين: في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وفي السنوات الأخيرة، مع انطلاق موجة أو مرحلة جديدة من الاهتمام بالأدب الروسي وبالثقافة الروسية، وخصوصاً بعد عودة نشطة للترجمة من الروسية إلى العربية في العقد الأخير، ومع ظهور عدد كبير من المترجمين العرب الذين يترجمون من الروسية كل شيء تقريباً في الفكر والأدب والمسرح والسينما. وأما بالنسبة لترجماتي في هذا الشأن فربما كان مناسباً أن أذكر عدداً من الكتب التي ترجمتها وأثارت اهتمام القارئ العادي والمتخصص: “علم الصراع” صدر في اتحاد الكتاب العرب عام 2013. وكتاب “استعباد العالم” للمفكر الروسي المعاصر فالنتين كتاسونوف وصدر في الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2018. وكذلك كتاب “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة” للمفكر الروسي ألكساندر دوغين، صدر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عام 2022 (وبعده انهالت على الفور الطلبات من أجل ترجمة كتب دوغين الأخرى).

أعمال ليف تولستوي وقصص أنطون تشيخوف جسّدت عظمة الروح الإنسانية وقوة الإرادة

• من مؤلفاتك (الانفعالات السلبية في حياتنا اليومية1999 و”أن تختار القمر: قراءات ودراسات في الأدب الروسي”، هل كان لما ترجمته الأثر وأين تجد نفسك أكثر في الترجمة أم بالتأليف؟
– إنهما كتابان من وحي المهنة ومن وحي القراءات. الأول يتعلق بمهنتي كطبيب. وقد صدرت منه طبعة ثانية عام 2019 أكثر دقة ومنقحة وأضفت إليها بعض التعديل المفيد. أما الكتاب الآخر فيتضمن مقالات متنوعة من عالم الأدب الروسي. وقد صدرت أول طبعة عام 2011. ثم صدرت طبعة معدلة ومشّذبة منه عام 2022 عن دار الأمل الجديدة في دمشق.

“آنا أخماتوفا عاشت حياتها محاطة باهتمام ورعاية “أقوياء هذا العالم”.. في حين أنَّ تسفيتاييفا كانت ضحية السلطة والكبرياء.

كما سبق وقلت: نحن نعيش من الترجمة. وهذا يحرمنا من إمكانية التفرغ للتأليف. للأسف. لأنني أتمنى لو كان الوقت يسمح لي بكتابة ما يجول في خاطري سواء على شكل سيرة ذاتية أو ربما رواية. لا أعرف الشكل بعد. لكنني سأميل للسيرة على الأرجح.

فهم وتعزيز
• ماذا عن التنقل بين سوريا وروسيا وهل ثمة علاقات أدبية مهمة مع الكتاب والأدباء الروس، إن كان بإمكانك تأسيس مشروع يهدف لتعزيز حركة الترجمة الأدبية بين روسيا والعالم العربي، فما هي الفكرة؟
– لا أتنقل كثيراً بين سوريا وروسيا. وأنا لم أغادر سوريا بين عامي 2006 وعامي 2019 لأنني كنت ممنوعاً من السفر. ثم لبيت دعوة سبق واعتذرتُ عنها عام 2013 و2015 للمشاركة في مهرجان داغستان الشعري بسبب منع المغادرة. ولكني منذ عام 2019 وبعد تسوية موضوع السفر، أصبحت بادئ الأمر ضيفاً على المهرجان الشعري “الغرانيق البيض” الذي يقام سنوياً في عاصمة جمهورية داغستان محج قلعة. وكان الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف هو الذي أطلق المهرجان، ومن ثم تحول إلى تقليد بعد رحيله وبرعاية رسمية من قبل اتحاد كتاب داغستان والحكومة هناك. واعتباراً من عام 2022 حصلت على إقامة مؤقتة ومن ثم تم منحي الجنسية الروسية لقاء نشاطاتي في ميدان الترجمة ونقل الثقافة الروسية الخ. واليوم أقيم هناك لأسباب موضوعية وذاتية. وكل تنقلاتي مرتبطة بشكل أو بآخر بالترجمة.

لأننا نعيش من الترجمة حُرمنا من التفرغ للتأليف..
لو كان الوقت يسمح بكتابة ما يجول في خاطري لاخترت كتابة السيرة الذاتية

ومع ذلك، يبقى الشوق إلى سوريا وإلى أجواء سوريا شعوراً قويّاً لا يفارقني قط. لأن سوريا تبقى أجمل بقاع الأرض وأكثرها كرماً ودفئاً خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات بين الناس فيها. وهذا ما لمسته وألمسه دوماً في كل مكان وأينما حللتُ. وهذا ما يؤكده لنا باستمرار كل من أتواصل معهم على هامش مختلف الفعاليات.
* كيف يمكن أن تؤثر الترجمة الأدبية على فهم الثقافات المختلفة وتسهيل الحوار بين الشعوب؟
– هناك قول معروف لشاعر روسيا الكبير الكساندر بوشكين: “المترجمون هم جياد لنقل الثقافة العالمية”. وهذا يلخّص بشكل مكثف الدور الكبير الذي تقوم به الترجمة الأدبية في تطوير وتعزيز العلاقات بين الشعوب والثقافات، وكيف أن المترجمين في ميدان الأدب يعبِّدون الطريق من أجل قيام علاقات تجارية واقتصادية وغير ذلك بين البلدان. ولا يمكن تخيل العالم اليوم من دون وجود ترجمة أدبية للأعمال التي تصدر سنويّاً في مختلف بلدان العالم وبلغات عديدة وفي مجال الرواية والسينما والمسرح وغير ذلك.
• كيف يؤثر تخصصك في الطب النفسي والعصبي على رؤيتك للأدب وترجمته؟

” يبقى الشوق إلى سوريا وإلى أجواء سوريا شعوراً قويّاً لا يفارقني قط.. لأن سوريا تبقى أجمل بقاع الأرض وأكثرها كرماً ودفئاً خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات بين الناس”

– برأيي إن الأطباء أكثر قدرة على الغوص في الأعمال الأدبية وفي شخصياتها. ويعود ذلك إلى أنّ اللغة الطبية أكثر غنى من الاختصاصات الأخرى من حيث حجم المفردات وتنوع الدلالات وتعدد المعاني للمفردات والجمل والعبارات. فالأطباء يدرسون اللغة اللاتينية، كما أنّ حجم القاموس العلمي واللفظي في المواد الطبية أكبر بكثير مما هو في الاختصاصات الأخرى، وهو يتداخل مع العلوم الإنسانية والفلسفية بدرجة كبيرة… والطبيب الممارس يتعلم قبل كل شيء كتابة قصة المريض وقصة المرض! وهذا يتطلب منه معرفة اللغة وخفاياها بشكل دقيق، خصوصاً عندما يكون متخصصاً في مجال الطب النفسي وطب الأعصاب والعصابات وما أدراك ما العصابات التي برع في دراستها فيلسوف النفس البشرية سيغموند فرويد. ولذلك، أنا أزعم أن الطبيب الناجح في عمله أقدر على قراءة وفهم العمل الأدبي. كما أنَّ الطبيب – وطبعاً المقصود هنا الطبيب الذي درس بجد وأتقن عمله – بحاجة لأن يعرف دواخل الشخصيات في الرواية والقصة ولهذا هو بحاجة لأن يتقن اللغة الأم واللغة التي يترجم عنها. وهذا ما قد لا يتوفر عند أصحاب الاختصاصات العلمية الأخرى، باستثناء، ربما، التخصصات الأدبية والفيلولوجية.
• ما هي اللحظة الأكثر إثارة في مسيرتك كمترجم، والتي تعتقد أنها غيرت نظرتك للعمل الأدبي؟

– عندما كنت أمارس مهنتي كطبيب، كنت أقوم بالترجمة كنوع من الهواية ولم أكن أنظر إلى الترجمة، أولاً، كحرفة، وثانياً، كعمل يمكن الكسب منه! لم أكن أبحث، كمترجم، عن الاعتراف. كنت أترجم ما يروق لي وأقدمه للناشر دون أن أبالي فيما إذا كان العمل سينال التقدير والإعجاب. كان الدافع للترجمة بالنسبة لي هو إعجابي بالكتاب. ولكن بعد أن نلت الجائزة الأولى في مسابقة أستاذنا الجليل سامي الدروبي في الترجمة عام 2017 (على كتاب “استعباد العالم”) تغيرت نظرتي إلى عملية الترجمة. هذا جانب. وهناك جانب آخر يتعلق بمسألة الحقوق. كنت أترجم في السابق دون أن أنتبه إلى مسألة الحقوق. ولهذا السبب أنجزت ترجمة أكثر من عمل ثم اكتشفت أنه لا سبيل لنشرها لأن دار نشر معينة حازت على حقوق الترجمة والنشر الخ. وهنا تحضرني حادثة مرتبطة بالكاتبة البيلوروسية سفيتلانا ألكسييفيتش. كنت قد اكتشفتها قبل أن يسمع بها القارئ العربي. وقبل أن تنال جائزة نوبل. وطلبت من صديق لي يقيم في موسكو أن يرسل لي أحد كتبها الذي كان قد صدر للتو “زمن مستعمل”. استغرب صديقي اسم الكاتبة وقال لي أنه لم يسمع بها أحد من السوريين في موسكو. وطلب لي الكتاب من روسيا البيضاء خصيصاً. ووصلني إلى سوريا. لكني تكاسلت في ترجمته. وإذ بها تفوز بجائزة نوبل. فأسرع المترجمون ودور النشر لإصدار أعمالها. وطبعاً كانوا أسرع مني لأنهم متفرغون تماماً للترجمة. فقررت ألا أترجم لها شيئاً. ولكني تعلمت الدرس.

“أزعم أن الطبيب الناجح في عمله أقدر على قراءة وفهم العمل الأدبي من ذوي الاختصاصات العلمية الأخرى”

• كم بلغ عدد أبناؤك من الكتب حتى الآن؟ و أيهما الأفضل لقلبك؟
– لم أحصِ عدد الكتب التي ترجمتها بدقة. ربما ناهزت الأربعين كتاباً في مختلف المجالات. ولكن الأحب منها إلى قلبي هي التالية: “كبرياء جريح. قصائد مختارة لمارينا تسفيتاييفا”. و”علم الصراع” لأنه الوحيد في هذا المجال في المكتبة العربية. يليه كتاب “أنطولوجيا الشعر الروسي” الذي صدر في مصر ونفدت جميع النسخ منه. وأخيراً كتاب “دوستويفسكي ونيتشه. فلسفة المأساة” لأحد أهم الفلاسفة الروس في القرن العشرين – ليف شِستوف.
• ما الكتاب الأدبي الذي تحلم بترجمته في المستقبل، وما الذي يجعله مميزاً بالنسبة لك؟
– ربما هناك عشرات الكتب الأدبية وغير الأدبية التي أحلم بترجمتها. ولكني أنتظر لحظة أتحرر فيها من ضغوط الحياة لكي أعود إلى سجيتي في الترجمة، وفي اختيار الكتاب ولكي أصبح حرّاً في اختيار دار النشر. وأحلم بشيء واحد: أن أصبح قادراً على تقديم ترجماتي إلى دور نشر صاعدة تبحث عن الرغبة في نشر الكتاب أكثر مما تبحث عن الربح والمنفعة التجارية. وأحلم بأن أصبح قادراً على فعل ذلك مجاناً. بلا مقابل.

 

 

 

 

 

اخبار سورية الوطن 2_وكالات_الحرية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أبيات شعرية رائعة للمتنبي تحولت إلى أمثال شعبية 

      هل تعلم أن المتنبي هو القائل؟؟ مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ. وهو القائل : على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ….. وهو القائل ...