يعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض غداً (الإثنين)، حاملاً معه اتفاق وقف النار في غزة، نموذجاً مبهراً لما يستطيع انجازه في ميدان السياسة الخارجية، التي وضع لها أجندة واسعة تمتد من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا والصين. سياسة خارجية مبنية على القوة، ولا تعرف حدوداً، كما يتبين من الطموح إلى ضم كندا وقناة بناما وجزيرة غرينلاند. ألقى دونالد ترامب بثقله، كما بات معروفاً، للتوصل إلى اتفاق وقف النار في غزة (وقبلها في لبنان)، قاطعاً الطريق على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بتحديده 20 تشرين الثاني/نوفمبر كمهلة نهائية، وإلا “ستنفتح أبواب الجحيم على الشرق الأوسط”، من دون تخصيص “حماس” وحدها بهذا “الجحيم” هذه المرة. في ظل رئاسة جو بايدن، كان نتنياهو واثقاً على مدار 15 شهراً أن الرئيس الأميركي لن يلجأ إلى فرض قيود على إسرائيل، حتى ولو تملصت تل أبيب من كل الالتزامات والوعود، سواء المتعلقة بالجهود المبذولة لوقف النار أو بإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كافية إلى القطاع، أو لجهة توسيع الحرب إلى لبنان. وانتظر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن حتى الأسبوع الماضي، كي يُعبّر عن الإحباط المتأخر من سياسات نتنياهو! أما مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فإن نتنياهو لم يكن واثقاً مما ستؤول إليه الأمور في حال رفض تلبية طلب الرئيس الجمهوري، القبول باتفاق وقف النار في غزة، ومن قبله وقف النار في لبنان. الضغط الذي مارسه ترامب من خلال مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، أجبر نتنياهو على المجازفة بفرط الإئتلاف الحكومي، بسبب المعارضة الشديدة التي يبديها وزير الأمن القومي زعيم حزب “القوة اليهودية” ايتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب “الصهيونية الدينية” لأي اتفاق يُوقف الحرب، ولا يُحقّق “النصر المطلق” على حركة “حماس”. لكن مع بلوغ “ساعة الحقيقة”، ثبُت أن واشنطن قادرة وأن نتنياهو قادرٌ على ترويض بن غفير وسموتريتش. هكذا حصل في لبنان وفي غزة من بعد، مما يؤكد فرضية أنه كان يستخدم الإثنين لتغطية رفضه هو نفسه لوقف الحرب، لأسباب تتعلق بمحاولته التهرب من تحمل مسؤولية الإخفاق الكبير أمام “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ويعلم نتنياهو تمام العلم أن ترامب، المتحرر من قيود الولاية الأولى، هو الرئيس للسنوات الأربع المقبلة، وأن عليه التعامل معه، ولهذا تخلى عن ورقة بن غفير وسموتريتش، وقدّم اتفاق غزة هدية للرئيس الأميركي المقبل، أملاً في الحصول على أثمان في ملفات أخرى. وكي لا يُكرّر خطأ 2020 عندما هنّأ بايدن بفوزه بالرئاسة، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى شكر ترامب على جهوده التي أدت إلى ولادة الاتفاق، قبل أن يشكر بايدن. هناك عامل آخر، لعب دوراً مهماً في اقناع نتنياهو بالهدنة. في الشهرين الأخيرين تحوّلت غزة وخصوصاً شمالها إلى مصيدة للجيش الإسرائيلي، الذي تمكنت “حماس” من قتل أكثر من 50 جندياً من قوات النخبة منذ أواخر تشرين الأول/أكتوبر. وهذا الجنرال المتقاعد أمير أفيفي يُحذّر في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، من أن الحركة “تمكنت من اعادة بناء قدراتها بسرعة أكبر من الجهد الذي يبذله الجيش للقضاء عليها”. وهذا ما يُعطي صدقية لقول السفير الأميركي في إسرائيل جاك لو، بأن من الخطأ وضع مسألة التدمير الكامل لـ”حماس” كهدف للحرب. لم يلح ترامب على وقف النار من منطلق العطف على الفلسطينيين، وإنما لأنه يريد البناء على “غزة أولاً” كي يُعيد تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤيته، التي لا تتعارض في المبدأ مع رؤية نتنياهو وإنما تختلف في الأسلوب. أيُّ خلل يُطيحُ بفرص تنفيذ اتفاق غزة بمراحله الثلاث، من شأنه أن يعرقل رؤية ترامب للشرق الأوسط، ويُعيد الأحداث إلى نقطة الصفر، هو أمرٌ لا يصب في مصلحة الرئيس الأميركي المقبل الذي سيجد عندها أن المنطقة تقف حائلاً دون استكمال جدول أعماله العالمي، وعلى رأسه بناء الردع الأميركي في مواجهة الصين سبق ترامب سلفه بايدن في الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق، مؤكداً تصميمه على توسيع “اتفاقات ابراهام” في الشرق الأوسط، في إشارة إلى الاتفاقات التي أبرمت عام 2020 برعاية ترامب في ولايته الأولى بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان مع إسرائيل. والمقصود الآن بالتوسيع، هو السعودية بشكل أساسي. ومن وجهة النظر الأميركية، يوفر التطبيع بين الرياض وتل أبيب، أساساً لتشكيل تحالف واسع في الشرق الأوسط في مواجهة إيران، التي أضعفت الحروب الإسرائيلية حلفاءها في المنطقة، من “حماس” إلى “حزب الله”، وخسرت حليفاً استراتيجياً في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فضلاً عن تحييد “الحشد الشعبي” في العراق إلى حد كبير. والغاية من هذا التحالف الإقليمي، هو تشديد الحصار أكثر على إيران، من أجل دفعها إلى التفاوض على اتفاق نووي جديد يضع قيوداً صارمة على تخصيب اليورانيوم، ويُبْعِدها عن عتبة القنبلة النووية، التي بلغتها عقب انسحاب ترامب في عام 2018، من خطة العمل المشتركة الشاملة لعام 2015. عندما يتحدث ترامب عن السلام خلال القوة، يعني أمراً واحداً، ألا وهو معاودة عقوبات “الضغوط القصوى” على إيران، مُرفقاً ذلك بالتلويح بالخيار العسكري، في تناغم مع نتنياهو، من أجل الحصول على اتفاق مع إيران المتراجعة إقليمياً من جهة والمنهكة اقتصادياً من جهة ثانية.
في خضم هذه التحولات الكبرى وإدراكاً للأخطار المحدقة، أتت زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لموسكو يوم الجمعة الماضي للتوقيع على معاهدة التعاون الاستراتيجي الشاملة بين إيران وموسكو، وسط قلق إسرائيلي وغربي من معاهدة مشابهة لتلك التي أبرمتها روسيا مع كوريا الشمالية الصيف الماضي. ويبقى أن الوصول إلى التحالف الإقليمي دونه عقبات كثيرة. وسبق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن وضع شرطاً للتطبيع يستند إلى قبول إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، أي تبني “حل الدولتين” الذي لطالما نادى به الأميركيون.. وهنا تكمن الصعوبة مع إجماع كل الطبقة السياسية الإسرائيلية على رفض الدولة الفلسطينية. كيف سيلتف ترامب على الرفض الإسرائيلي ويُقنع السعودية في الوقت ذاته بالتطبيع من دون انتظار الدولة الفلسطينية؟ تطرح مجلة “الإيكونوميست” البريطانية تساؤلاً في هذا السياق، فهل يلجأ ترامب ونتنياهو إلى التلويح بضم الضفة الغربية، ومن ثم القول للرياض إن التطبيع وحده يُمكن أن يحول دون قرار إسرائيلي بالضم؟ وللتذكير، فإن “اتفاقات ابراهام” أبرمت في مقابل “تعليق” الحكومة الإسرائيلية قراراً بضم الضفة. ماذا يعني هذا؟ يعني بالدرجة الأولى، أن الوضع في الشرق الأوسط سيبقى متفجراً. ولم يتلفظ ترامب في ولايته الأولى ولا بعد فوزه بولاية ثانية، بكلمة عن الدولة الفلسطينية أو حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وعندما اقترح “صفقة القرن” في ولايته الأولى، جوبهت بمعارضة شديدة من السلطة الفلسطينية، لأنها نصّت على دولة فلسطينية مبتسرة وغير قابلة للحياة على جزء من الضفة الغربية، تكون مطوقة بالمستوطنات الإسرائيلية، واشترطت فترة اختبار تمتد سنوات لمعرفة مدى تعاون الفلسطينيين في حفظ أمن إسرائيل. ومن دون الإفراط في التفاؤل، يُفترض بترامب أن يكون استفاد من دروس ولايته الأولى. ومن المؤكد أن العودة إلى “صفقة القرن”، ستوصل إلى النتائج ذاتها، بينما من غير المعقول أن يقبل الفلسطينيون باحتلال دائم، وبالتنازل عما تتمتع به الشعوب الأخرى في المنطقة من حق في السيادة وتقرير المصير. لذا، يُشكّل اتفاق غزة اختباراً لمدى جدية ترامب في متابعة الإشراف على تنفيذ الاتفاق، الذي يفسره نتنياهو على أنه لا يعني وقفاً للحرب، بل هدنة تتيح استعادة 33 أسيراً إسرائيلياً لدى “حماس”، ومن ثم يستأنف الهجمات كي يضغط أكثر على الحركة، ومن ثم يرضي سموتريتش الذي بقي في الحكومة لأنه حصل على تعهد باستئناف القتال بعد إنهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، التي تمتد على ستة أسابيع. أيُّ خلل يُطيحُ بفرص تنفيذ اتفاق غزة بمراحله الثلاث، من شأنه أن يعرقل رؤية ترامب للشرق الأوسط، ويُعيد الأحداث إلى نقطة الصفر، هو أمرٌ لا يصب في مصلحة الرئيس الأميركي المقبل الذي سيجد عندها أن المنطقة تقف حائلاً دون استكمال جدول أعماله العالمي، وعلى رأسه بناء الردع الأميركي في مواجهة الصين. ويقبع في خلفية تفكيره أن السبيل للحصول على الردع هو بتوسيع حدود الولايات المتحدة لتضم كندا وغرينلاند بثرواتها الطبيعية وموقعها الاستراتجي في القطب الشمالي قبالة روسيا، وبالعودة إلى الهيمنة على قناة بناما، لتحجيم النفوذ الصيني هناك وفي مجمل أميركا الوسطى. في الخلاصة؛ يعود ترامب إلى البيت الأبيض، والشرق الوسط قد تغيّر عما كان عليه إبّان ولايته الأولى. ودول الخليج العربية تقيم علاقات استراتيجية مع الصين، وطبّعت علاقاتها مع إيران بوساطة من بكين، وحرب غزة التي ذهب ضحيتها أكثر من 46 ألف فلسطيني (تقول مجلة “لانسيت” الطبية البريطانية أن العدد هو 64 ألفاً)، بدّدت الكثير من شرعية إسرائيل في العالم. في ذهن ترامب أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا، سيُعبّد له الطريق إلى أوسلو للحصول على جائزة نوبل للسلام، ولا يرى ان باراك أوباما وجيمي كارتر أجدر منه بتلك الجائزة. لكن السؤال الحقيقي: أيُ سلام ينشده ترامب؟
اخبار سورية الوطن 2_180post