الدكتور نسيم شفيق الخوري
وردتني هذه الرسالة من طبيب لبناني صديق درس في اسبانية، وهو على الأرجح منتسب قديما الى “الحزب السوري القومي الإجتماعي” قبل ان تثقل الحزب الإنشقاقات في لبنان تحديدا
لقد أثارتني هذه الرسالة بعدما أثارت الكثير من الكتابات واللغط وتبقى عندي ثمينة وذلك لأمرين وجدانيين ووطنيين :
أولا :
لمعرفتي ب ريمو ن اده
رحمه الله، في العام ١٩٧٠ في قريتي الكفير التي زارها العميد اده بصحبة صديقه نجيب ابو رزق زوج خالتي متيل الخوري، وكان الهدف من الزيارة الطلب من”ابو عمار” اخلاء منزل جارنا بشارة لاون بعد أن تم احتلاله من قبل الفدائيين ، وأقام فيه ابو عمار . رافقتهما في الزيارة ولم يحصل الإخلاء ، بل حصل العكس تماما ، اذ قام المسلحون بعدها باحتلال منزل يعود لنا في منطقة “النقيري” قرب بيتنا المنزوي هناك.
الغريب ان المنزل المحتل تم احراقه وتهدم وما زال متهدما حتى اليوم، وقد انزعج والدي كثيرا من عدد المسلحين والسلاح الذي كان ملاصقا لبيتنا حتى ان والدتي اعتبرت بأن موت ابي المفاجيء في ال١٩٧١ عن عمر ٥٩ سنة في عيد الغطاس كان بسبب الإرهاق ولربما الخوف والقلق من القصف الإسرائيلي الذي ذاقت منه أهلنا في الكفير
الأمرين وخسرنا العديد من أبنائها.
ثانيا:
لعلاقتي الوطيدة جدا بالعميد ريمون اده الذي غادر لبنان بعد محاولة اغتياله نهائيا الى باريس ليقيم في فندق “البرانس دو غال” القريب بضعة امتار عن مكاتب مجلة المستقبل التي كنت احد مسؤوليها عند تأسيسها في باريس أيضا في ٤١ جادة جورج الخامس .
لازمت العميد رحمه الله يوميا ، وخصوصا قبل الضهر من كل نهار احد حيث كان يفتح صالونه للسياسيين والزائرين الذين كان بعضهم يقصدونه لسماع آرائه.
ثالثا:
ماذا في رسالة هنري كيسنجر المتوفي الأسبوع الماضي عن مئة عام الى ريمون اده المؤرخة في ١٤ حزيران ١٩٧٦، وهي الأهم في المقال:
“عزيزي مستر إده،
وصلني النص الحرفي لترجمة كتابك المؤرخ ١٩٧٦/٦/١٢، عن طريق سفارة الولايات المتحدة في بيروت. وخيل إليَّ للوهلة الأولى، أن شيئاً خطيراً قد حدث في لبنان لأن السفير نقله إلى واشنطن مع إشارة “عاجل جداً”. لذلك تسلمته في مكسيكو خلال رحلتي إلى بلدان أميركا اللاتينية، وأنا الآن أجيب عليه من المقصورة الصغيرة بالطائرة الخاصة المعدة لرحلاتي المكوكية. لهذا أعتذر عن “المطبات” التي سأقع فيها، لأن انشغالي بأمور كثيرة يجعلني عرضة لأخطاء غير مقصودة. أحب قبل كل شيء أن أهنئك لأنك سلمت بطريقة عجائبية، من محاولة اغتيال. وهذا ثمن يدفعه كل سياسي في العالم، حتى في بلادنا. وقد تستغرب ما نتكلفه – مادياً وأمنياً – على حماية الرؤساء والمرشحين بعد مقتل الأخوين كيندي … وبعد المحاولات المتكررة التي تعرض لها الرئيس الحالي مستر فورد. كما أشكرك هذه المرة بالذات لأنك رفضت أن تجعلني مسؤولاً عن محاولة اغتيالك، بعد سلسلة الاتهامات التي ألصقتها بي، بحيث صورتني للرأي العام إلهاً صغيراً أعطي من القدرة والسلطان ما لم يعطه في الماضي الفراعنة والقياصرة ! لقد اكتشفت في العبارة الأولى التي افتتحت بها رسالتك كثيراً من النبل عندما قلت “ليس لي شرف معرفتك” وأنا أيضاً ليس لي شرف معرفتك، مع أنك – حسب التقارير التي تصلني من ديبلوماسيينا في بيروت – من أكثر السياسيين اللبنانيين شهرة وسط الجاليات الأجنبية. فأنت حسبما أقرأ عنك، تتمتع بشهرة خاصة كعازب ظريف، ودون جوان، وهذه صفات أحبها. وإنما أستغرب ما سجله عنك سفراؤنا السابقون، فالكل يقول إنك مرشح دائم لرئاسة الجمهورية، ثم يضع ملاحظة مهمة لاجتهاد خاص: “ولكن حظه في الوصول إلى سدة الرئاسة صعب”. من هنا كان ترددي المبدئي للاجتماع بك عندما طلبت موعداً من معاوني. فنحن، كما تعرف، نحب أن نتعاون مع أصحاب الحظوظ ! ومع أن سفيرنا إلى بيروت قدم لي مذكرة بخلاصة حديثك الطريف معه، إلا أن صراحتك زادتني فضولاً وتشوقاً لفتح حوار مطول معك حول الأمور التي طرحتها. وفي مقدمتها ما قلته بأنني شخصياً أخطط لتقسيم لبنان، وإعطاء قسم من جنوب بلادكم لإسرائيل، ثم السعي لتقسيم سوريا. يجب أن أعتذر لك مرة ثانية لأنني تركت مكتبي عندما كنت أنت مجتمعاً في وزارة خارجيتنا، ونزلتُ إلى المدخل الرئيسي لأستقبل غولدا مائير. إني أعرف رأيك فيها كامرأة، وأعتقد أني سمعت رأياً مشابهاً لرأيك عندما تناولت طعام الغداء في منطقة نائية عن بيروت مع رئيس جمهوريتكم مستر فرنجية. يومها سألني وزير خارجيتكم “لماذا لا أزور هياكل الأعمدة الضخمة في بعلبك؟”. وأجبته إني على موعد مع غولدا مائير في تل أبيب، ولا أستطيع أن أتأخر عن لقاء هذه العجوز… وفي المرة الثانية علمت بأنك عدت إلى الولايات المتحدة لتجتمع بي، بناء على وعد قطعته لك الآنسة (م). ولقد أخبرتك في باريس بأنها تعرفني جيداً، وأنها كانت صديقتي. هذا صحيح. أنا لا أنكر ذلك. ولكنها نسيت أن زوجتي تملك جهاز مراقبة لصالحها في مكتبي مع أنني بحكم مركزي، أراقب كل العالم. لذلك أفضل في المرة المقبلة، إذا قررت المجيء إلى أميركا، ألا تطلب موعداً عن طريق النساء ! أحب أن أذكرك بزيارتي للبنان. يومها طلبت شخصياً من سفارتنا في بيروت أن تتصل بأجهزة الأمن عندكم وتلح عليها بوجوب تغيير مكان الاجتماع برئيس جمهوريتكم لأسباب تتعلق بسلامتي. وذكر المسؤولون عن الأمن في السفارة الأميركية ببيروت، أن معلوماتهم تشير إلى وجود صواريخ أرض – جو سوفياتية الصنع، ستوجّه إلى طائرتي قبل هبوطها في مطار بيروت. وكنت بهذا العمل أكذب وأحاول أن أمتحن مقدار السيادة اللبنانية …. وقدرة السلطة على فرض إرادتها. وبدلاً من أن ترفض الدولة اللبنانية هذا الأمر، انتقل رئيس بلادكم إلى مكان خفي، سري، ليجتمع بي. عندئذ أدركت حقيقة أنه لا وجود للدولة اللبنانية وأن السيادة معدومة. وصدقني إن اللقاء القصير معه كان مضيعة لوقتي الثمين. ولا أكتمك أنني أجريت امتحانات عديدة من هذا النوع مع حكومات عربية أخرى. ولكن جميع المسؤولين في الأردن أو سوريا أو مصر أو غيرها، رفضوا تغيير بند واحد في برنامج الزيارة، واعتبروا أن الدفاع عن أي زائر رسمي هو مسؤولية داخلية لذلك اكتشفت خلال الساعات القلائل التي أمضيتها في ثكنة عسكرية عندكم أنني في وطن هارب يختبئ من واقعه المتردي! أتمنى لك الشفاء العاجل، وأحب في ختام هذه الرسالة أن أذكرك بعبارة ملهمي “مترنيخ”: “البعض يصنعون التاريخ.. والبعض يكتبونه”. أنا شخصياً قررت أن أكون من صانعي التاريخ، وأنت ماذا قررت؟
بانتظار جوابك، دمت للمخلص.
هنري كيسنجر”
(سيرياهوم نيوز ٣-المنتدى)