أحمد ضياء دردير
لوهلة، تماهى بعضنا مع غضبة اليمين الغربي لما شاهده في افتتاح الأولمبياد في باريس، ثم جرفتنا دماء الشهداء الذين قضوا في العدوان الإسرائيلي المستمر، حتى عادت الأولمبياد تفصيلة صغيرة وتافهة على هامش ما نعيشه.لكنّ الدماء هي صلب المسألة. فبعيداً من الجدل الدائر حول دور المثليين والعابرين جنسياً في عروض حفل الافتتاح، وما إذا كانت اللوحة التي أثارت جدلاً هي لوحة العشاء الأخير أم لوحة وليمة الآلهة، فإن أول ما أثار حفيظة هذا اليمين هو المشاهد التي تستعيد الثورات الفرنسية المتتالية، ومشهد ماري أنطوانيت مقطوعة الرأس تغني أنشودة ثورية من عصر الثورة الفرنسية.
كان هناك احتفاء بالدم بشكل فجّ في هذا الاحتفال، ربما كان هذا ضمن رؤية معدّي العرض الذي أرادوه فجّاً وفظاً. لكنّ هذا المشهد لا ينفصل كذلك عن حضور ميراث الدم في الثقافة الفرنسية.
نعرف ذلك بالتأكيد من دمائنا التي خاضوا فيها، ولكن ثمة جانب آخر لولع الفرنسيين بالعنف والدم، يمكن أن نجد فيه شيئاً إيجابياً.
فمشهد أنطوانيت تغني مقطوعة الرأس يندرج ضمن استمرار فخر فرنسا بالعنف الثوري المؤسّس لها. والأغنية التي جعلوا الملكة الذبيجة تغنيها هي أغنية Ça ira (ستسير الأمور)، التي كانت نشيداً يردّده العامّة في الثورة الفرنسية الأولى، يتوعّد الأرستقراطيين بالشنق على أعمدة الإنارة (وهو المقطع الذي غنّته الدمية في افتتاح الأولمبياد)، وتتوعد الملك بأن عصره انتهى. هذه الأغنية، بما فيها هذا المقطع العنيف الشهير، ما زالت جزءاً من الثقافة الشعبية الفرنسية حتى الآن، وقد غنّتها مغنيتهم الشهيرة إديت بياف، وها هم يتذكرونها الآن، مع خلفية دموية تليق بها، حين أرادوا تقديم ثقافة فرنسا إلى العالم.
ولا ننسى أنّ الجماهير، في الأولمبياد، وفي غيرها من المراسم والمحافل، تقف احتراماً بينما تعزف الجوقة الوطنية لحناً عن إراقة الدماء الدنسة (في النشيد الوطني الفرنسي الذي ينتمي هو الآخر إلى حقبة الثورة الفرنسية والذي كان يتوعّد بحماية البلاد من الجيوش الغازية –الألمانية والنمسوية- التي جاءت لإعادة النبلاء إلى الحكم، ويتوعد بإراقة دمهم النجس).
يمكننا بالتأكيد أن ننتبه إلى التناقض ما بين فرنسا التي تقدّم نفسها مثالاً للأناقة والتحضّر والتمدّن وبين هذه الاحتفالات الدموية وهذا التراث العنيف المتجدّد، بل ويمكننا أن نشير إلى نفاق المؤسسة الفرنسية، الرسمية والشعبية، القائمة على أنقاض هذه الثورات وأشلائها التي تحتفي بها بعد أن هزمتها (خاصّة من بعد أن أعدمت من تبقّى من الثوّار في مجزرة جماعية في نهاية كومونة باريس وبعد أن أقامت جمهورياتها منذ ذلك الحين على مبادئ الثورة المضادّة). ولا يغيب عنّا طبعاً ما في هذه الحفاوة من نفاق يحتفي بالعنف الثوري في تاريخهم بينما يدينه في حاضرنا. ولكن يبقى في هذه الحفاوة ما يلفت النظر؛ أنّ هذه أمّة لم تكف عن الفخر بالعنف الثوري المؤسّس لها ولا تخجل منه.
ومع أنني لست من أنصار استلهام الدورس من الغربيين، إلا أنني أرى في هذه بالذات درساً يمكن أن نستلهمه. يتهموننا بأننا نحن الذين نمجّد العنف، ولكنني أرى أننا، مقارنة بالغرب، وبفرنسا بالذات، نكاد في بعض الأحيان نخجل من عنفنا أو نحاول شرعنته ولو على شريعة غيرنا.
فالنفاق الاستعماري الذي يشرعن عنفهم ويسحب الشرعية من عنفنا، له جانب نفسي، يريد أن يزرع فينا أن عنفهم، وإن كان في بعض الأحيان مداناً، هو في مرتبة أخلاقية أرقى، وعنفنا، وإن كان في بعض الأحيان مشروعاً، هو في مرتبة أخلاقية أدنى، وهو يؤثر علينا بشكل أو بآخر حتى وإن كنا نعادي الاستعمار بعقلنا الواعي (فكّر عزيزي القارئ في عمل عنيف تدينه لفصيل عربي أو مسلم لا تتّفق معه، ثم سل نفسك هل هذه الإدانة هي نفس إدانة المواطن الأميركي العادي للعنف الذي تمارسه بلاده).
لا تنفصل عملية نزع شرعية العنف من عملية تعجيز الشعوب، لتصبح محايدة، عملياً، وأحياناً معنوياً، بينما الحرب تدور على مصيرها. لا يعني هذا أنني أدعو إلى تمجيد العنف لذاته، أو لتبرير أي أعمال عنف تخرج من بين ظهرانينا؛ هذا موقف لا أتبناه أخلاقياً ولا نملك ترفه سياسياً. ولكنني أرى ما رآه فرانتز فانون أثناء تجربته مع الثورة الجزائرية: أن العنف في السياق الاستعماري له أثر معنوي، عنف المستعمِر يزرع في نفس المستعمَر العجز والدونية، وعنف المستعمَر يخرج به إلى دائرة الفعل والاعتزاز بالنفس.
نحمد الله إذاً، أن في بلادنا أحزاب وجماعات «يد الله مدّت إليها السلاح» وأحزاب وجماعات تتغنّى بصواريخها ورصاصها، بل وبأحزمتها الناسفة. فإنّ جماعات المقاومة، على اختلافها، ليست فقط ضرورة سياسية وعسكرية لحماية الأرض، ولكنها كذلك ضرورة نفسية ليكون لدينا ميراث عنف شرعي نستند إليه، ولتأخذ شعوبنا، على الأقل على المستوى النفسي، من دائرة العجز إلى دائرة الفعل والمبادرة.
* باحث عربي
سيرياهوم نيوز١ _الأخبار