| نقولا طعمة
جانب واحد تتّسم به أنطاكية في حدث الزلزال، يختلف تاريخياً، وليس انسانياً، هو ما تعنيه بالنسبة للديانة المسيحية، حيث تسمى “مهد المسيحية”.
كارثة زلزال 6 شباط/فبراير الجاري، اعتبرها الخبراء من أكبر وأعنف الحوادث التاريخية الطبيعية، لما ألحقه الزلزال من أضرار بالغة في البشر والحجر، تتساوى فيه كل المناطق بين تركيا وسوريا، وكل الفئات بمشاربها المختلفة.
أما مدينة أنطاكية التاريخية، التي لا تختلف عن بقية المناطق بقيمة الخسارة، وحجم الكارثة، فقد تكرّرت فيها عملية تدمير شاملة، سبق أن حدثت في حقب تاريخية مختلفة.
جانب واحد تتّسم به أنطاكية في حدث الزلزال، يختلف تاريخياً، وليس انسانياً، هو ما تعنيه بالنسبة للديانة المسيحية، حيث تسمى “مهد المسيحية”، وربما كثيرون من المسيحيين، وسواهم، لا يعرفون أهميتها الدينية، وجل ما يعرفونه أن ألقاب بطاركتهم تتضمن اسم انطاكية، فيقال على سبيل المثال: “فلان بطريرك أنطاكية وسائر المشرق”.
ثمّة إشكالية ترافق التسمية بنظر العديد من الناس، حيث تتركز في الأذهان فلسطين، وبلدة أورشليم، ,وبيت لحم، مكاناً ومركزاً تاريخياً للمسيحية، حيث ولد السيد المسيح، وجرت فيه كل الرواية المسيحية الانجيلية المُتَداوَلة، ما يطرح السؤال عن سبب تسمية أنطاكية بـــ”مهد المسيحية”.
المدينة تاريخياً
تأسست أنطاكية في القرن الرابع قبل الميلاد، على يد القائد اليوناني سلوقس الذي وصل إلى الجبل المعروف بـــ “الجبل الأقرع”، المجاور لموقع المدينة، وأقام عليه طقسه الديني- “الذبيحة الإلهية”، ثم أسّس المدينة، وأطلق عليها اسم والده أنتيوكس، وتطورت المدينة لتصبح واحدة من أكبر المدن في العصر التالي، أي العصر الروماني خلال القرن السادس الميلادي، وضربها زلزال كبير أدى إلى دمارها الكامل سنة 148 ق.م.
نكبات عدة أصابت أنطاكية من حروب وغزوات وزلازل، وعادت إلى الحياة فبناها أهلها أكثر من مرة بحسب الروايات التاريخية، ويوم أُبِيد المسيحيون في أورشليم في فلسطين، كانت أنطاكية ملجأ المسيحيين الأوائل، ومنها أعادوا إطلاق دعوتهم.
مسيحيو فلسطين
من المعروف أن المسيحيين الأوائل تعرّضوا للتنكيل والاضطهاد في فلسطين، والمسيحية كحركة إصلاحية، طالت على ما يبدو هيكلية العقيدة اليهودية، فقد كان السيد المسيح يهودياً، وداعية للإصلاح، أي الإصلاح في اليهودية، وفي المجتمع القائم على العقيدة اليهودية والمعتقدات الوثنية الرائجة في حينه.
انزعج اليهود من ظهور حركة إصلاحية تطاول تقليدهم، كما انزعج الرومان من وجود حركة جديدة، فتعاون الاثنان على محاربتها، وملاحقة أفرادها، بدءاً من المسيح، وما بعده، إلى انتهى الأمر بمقتل آخر مسيحي في أورشليم، وهو يعقوب، أحد تلامذة المسيح الأوائل، وكان ذلك عام 39-40 م.
أول تلامذة المسيح، بطرس، هرب مبكّراً واحتمى في دمشق، وكان اليهودي شاؤول قد تحوّل إلى المسيحية، وعرف ببولس الرسول، ما أثار حفيظة اليهود عليه، وجرت ملاحقته مع بطرس، فتخفيّا لدى حنانيّا، أحد تلامذة المسيح، في دمشق، إلى ان رتّبا هروبهما، وراحا إلى أنطاكية، واختبآ في مغارة تقع عند المنحدر الجنوبي لجبل “ستوريون”، حملت لاحقاً اسم “كنيسة القديس بطرس”، ومن هناك، بشّرا بالمسيحية، وأطلقا الأفكار المسيحية الأولى، لذلك عُرِفَت أنطاكية ب “مهد المسيحية”.
لذلك، يطلق المسيحيون على انطاكية لقب “مدينة الله”، وعلى كنيسة بطرس يقولون: “هناك دُعينا مسيحيون”.
في القرنين 12 و13، أضيفت إلى المغارة إنشاءات أعطتها طابعاً كنسياً، اقتصر على بناء جدار خارجي للمغارة. بلوغاً عام 1872 م، حيث كان لا بد من إنشاء كاتدرائية تتسع للحضور المسيحي المتنامي، شيدت كنيسة القديسين بطرس وبولس على مسافة قريبة من كنيسة المغارة، إلى أن تدمّرت بالزلزال الأخير بصورة تامة.
اليوم، بتدمير أنطاكية، وكنيسة بطرس وبولس، تكون المرجعية المسيحيّة قد تلقت ضربة قوية في صميم تاريخها، وعقيدتها، ومرجعيتها الإيمانية، وهذا ما يضيف إلى نكبة الزلزال الشاملة، نكبة خاصة بالمسيحية.
معطيات أنطاكيّة
حصلت المدينة على استقلال ذاتي سنة 396 ب.م. واحتلها العرب سنة 638، أما الصليبيون فاحتلوها سنة 1097 م، ونكّلوا بأهلها بوحشية، وبين 1260 و1516م، تناوب عليها المغول والمماليك.
وبصعود الامبراطورية العثمانية، احتلها السلطان سليم العثماني سنة 1560، وضمّها إلى امبراطوريته حتى أفولها سنة 1918م. حيث تحوّلت إدارتها إلى الحكم الفرنسي بموجب اتفاقية موندروس.
وفي سنة 1938، أعلنت ولاية مستقلة لسنة واحدة، ثم عادت للوقوع تحت حكم الأتراك الحديث، وغيّرت السلطات التركية تسميتها إلى “هاتاي” للتذكير بأصل الموقع القديم العائد لحقبة “الحتّيّين”، “Hittite”، (وليس الحثيّين).
مع بداية الحرب العالمية الثانية، كان الأتراك متحالفين مع الألمان، ولكي يمنع الانجليز والفرنسيون عبور الأساطيل الألمانية لمضيقي الدردنيل والبوسفور، واستخدام المياه التركية في مواصلاتهم، سمحوا للأتراك بالاستيلاء على إقليم اسكندرون الذي كانت أنطاكية عاصمته.
وفي عملية تتريك سريعة وحادّة، عمدت إليها السلطات التركية، تغيّرت في نحو 80 عاماً ويزيد، الكثير من الخصائص المميزة لأنطاكية، وتركيبتها الديمغرافية، والعقائدية، فمنعت التداول باللغة العربية، وفرضت تعلّم التركية على السكان، ومع الوقت، غابت الكلمات والعبارات العربية من الشوارع، وباتت لوحات المحلّات التجارية كلها بالتركية.
لم يبق من المسيحيين مؤخراً في أنطاكية إلا قلّة يمكن وصفها بالنادرة، سرّعت بهجرتهم معاهدة “لوزان” للتبادل السكاني بين تركيا واليونان سنة 1923، وعملية التتريك للإقليم، إضافة إلى أحداث تاريخية أخرى.
لأنطاكية أهمية خاصة، لذلك كانت مطمع الشعوب منذ تأسيسها، ساهم في ذلك موقعها الاستراتيجي في الزاوية الشمالية – الشرقية للبحر المتوسط، وعلى تقاطع طرق هامة بين الشرق والعالم اليوناني – الروماني قديماً، وأوروبا في ما بعد. يعبرها نهر العاصي الذي ينبع في لبنان ويعبر الأراضي السورية، بلوغاً لأنطاكية حيث يسمونه “أورنتس” (Orontes) ويصب في السويدية على مقربة منها.
في كل مرة كانت تدمّر الحرائق والزلازل والحروب أنطاكية، كانت تقوم من بين الركام، لتصبح بعد عام 42 ق.م. ثالث أهم مدينة رومانية بعد روما والاسكندرية، ومركزاً علمياً ودينياً وتجارياً للشرق الأدنى، وسور المدينة القديم شيد معها منذ زمن سلوقس، وكان جزء منه لا يزال قائماً، حتى ما قبل الزلزال الأخير، يعلو قمة جبل “سيليبيوس” الذي تقع أنطاكية على سفحه، وغابة الغار وتعرف بغابة دفنة، شهيرة في المدينة، وتقع على بعد نحو 7 كيلومترات منها إلى الجنوب، في منطقة تعرف بالحربيّات، فيها سلسلة من بساتين الفاكهة، والبيوت الريفية الجميلة المغطاة بالأشجار، تحف بضفة “العاصي”، وتتخللها ينابيع كثيرة.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين