بقلم المهندس باسل قس نصر الله
شيءٌ ما في صدري لا يزالُ ينبضُ كلما مررتُ بالقربِ من المقابرِ.
شيءٌ ما يَسحبني من يدي، كلما شاركتْ في دفنِ قريبٍ أو عزيزٍ، فأقومُ بجولةٍ بين القبورِ، أقرأُ خاشعاً أسماءَ الموتى، ولا أعرفُ إن كنتُ أزورهم أم أنهم هم من يستقبلونني.
موتى المسيحيين لا يهاجرون من سوريةَ.
لكننا نحن الأحياءَ منهم نرحلُ، نحملُ وجعنا وذكرياتنا وحقائبَ خفيفةً باليدِ، ثقيلةً بالقلبِ، ونظنُّ أننا سنعودُ.
أما هم، فبقوا، تجذّروا في ترابِ الأرضِ كما الجذورِ، لا تغريهم بلادٌ بعيدةٌ، ولا يخيفهم قصفٌ أو موتٌ أو خرابٌ.
هم الأمانُ، هم الثباتُ، هم الذين تركونا وبقوا حراساً لذاكرتنا على هذه الأرضِ.
كلما قرأتْ ورقةَ نعوةٍ في حلبَ، أبحثُ بعينيّ عن أسماءِ الدولِ التي هاجر إليها الأبناءُ: السويدُ، كندا، أميركا، فنزويلا…
لم نعدْ نكتبُ “أقاربه في الوطنِ”، بل “أبناؤه في المهجرِ”، وكأن الغربةَ أصبحت الأصلَ، والوطنَ أصبح محطةً قديمةً.
أتوقفُ أحياناً عند قبرِ أمي وأبي، وخالتي التي ربّتني، فأسمعُ صوتهم يهمسُ: “مبسوطين إنك جيتَ”، وأتساءلُ: هل سيزورني أولادي كما أزورهم؟
كلهم هاجروا، وإن عادوا، فلأيامٍ معدوداتٍ، لبيع عقارٍ أو معالجةِ أسنانهم وإجراءِ عملياتهم الجراحية “بحجة الرخصِ” وأصبح الوطنُ هو الأرخصَ.
هل سيعرف أحفادي أن جدهم مدفونٌ هنا؟ أم ستكون الزيارةُ سريعةً، في صيفٍ سياحيٍّ، تمرُّ على قبري كما يمرّون على متحفٍ أثريٍّ؟
الموتى لا يهاجرون، لكنهم يخشون أن يُنسوا.
ومع كل هذا الحنينِ للأرضِ، ينبعثُ في داخلي غضبٌ لا يشبه الموتى بل يشبه الأحياءَ.
منذ بدايةِ الأزمةِ في سوريةَ، تبارى كثيرون في التباكي على المسيحيين.
إدّعوا أنهم حماةُ الوجودِ المسيحيِّ، وأنهم يدرسون “الملفَّ المسيحيَّ”، وكأننا ورقةٌ في أرشيفهم السياسيِّ.
بعضهم – إذا أردنا أن نُحسن الظنَّ – متحمسٌ، لكن الكثير منهم ليسوا سوى متسلقين يبحثون عن الأضواءِ، يدّعون الدفاعَ عن المسيحيين وهم لا يعرفون منهم إلا الاسمَ والصورةَ.
وجودُ رجلِ دينٍ مسيحيٍّ في مؤتمرٍ أو ندوةٍ لا يعني أن الأمورَ بخيرٍ، فلدينا – بكل صراحةٍ – من رجالِ الدينِ من يحب الظهورَ والتصويرَ أكثر من أداءِ الدورِ، ومن يعشقُ المنابرَ أكثر من ألمِ الرعيةِ.
الهجرةُ التي اجتاحت المسيحيين لم تكن ترفاً، كانت خوفاً من مستقبلٍ اتّخذ الدينَ غطاءً للصراعِ.
لم نكن نريد أن نترك أرضنا، لكن الخوفَ غلبنا.
واليومَ، وبعد كل هذه السنواتِ، ما زال البعضُ يعقد المؤتمراتِ والندواتِ، ويطلق الخطاباتِ الرنّانةَ عن “مسيحيي المشرقِ”، فيما تبقى كلماتهم طنيناً بلا فعلٍ.
مشكلتنا، نحن المسيحيين، ليست في المجتمعِ، بل في المتسلقين منكم.
المشكلةُ فيمن اختصر الوجودَ المسيحيَّ بعباراتِ الشفقةِ، وكأننا ضيوفٌ في وطننا.
كفاكم سؤالاً عن “وضعِ المسيحيين” وكأنهم غرباءَ!
المسيحيون ليسوا قضيةً تحتاج إلى رعايةٍ، بل جزءٌ من هذا النسيجِ السوريِّ، فيهم من بقي، ومن هاجر، كما باقي السوريين.
كفاكم تباكياً على هجرتهم، فقد بكيتم عليهم كالباكين بما يكفي، بينما لم تقفوا معهم كالرجالِ.
أيها الموتى، أيها الأهلُ، نحن من بقي ليحمل وردًا ويهمسَ صلاةً.
سنروي قصتكم، ونحمل صوركم، ونردد أسماءكم، ونقاوم النسيانَ.
الموتُ الحقيقيُّ ليس حين يتوقف القلبُ، بل حين لا يعود أحدٌ يذكرك أو يقف عند قبرك.
اللهم اشهد، أني ما نسيتُ.
اللهم اشهد، أني بلّغتُ.
(موقع أخبار سوريا الوطن-١)