| طريف الخالدي
على امتداد حوالي عشرة أيام، تابعت أنا وزوجتي على شاشتَي «BBC» و«Sky» مراسم تشييع الملكة إليزابيث الثانية كأننا نشاهد مسلسلاً تلفزيونياً ساحراً. غابت عن هاتين الشاشتين أخبار العالم بأسره، ومنها أخبار الحرب في أوكرانيا وهي بمثابة الموضوع المفضّل والطاغي على كل ما سواه في إعلام الغرب في يومنا هذا. وأصاب الشعب البريطاني بأسره، وأصاب تلفزيوناته أيضاً، ما يشبه حالةً من التنويم المغناطيسي التي لا ريب وصلت ذبذباتها إلينا، رغم أننا لم نفقد، على ما أظن، إحساسنا النقدي لما يجري أمامنا ولسان حالنا: أين أنت يا رولان بارث وأين أنت يا أمبرتو إيكو لنستنير بعلمكما الغزير بالدلالات لتفكيك وتحليل ما نشاهد ونسمع؟
في عام 2002 صدر كتاب للمؤرخ البريطاني دافيد كاناداين بعنوان Ornamentalism (التزيّن؛ التبرّج) وهو عنوان يحاكي ويعارض كتاب إدوارد سعيد الشهير Orientalism (الاستشراق) ويحاجج أن علاقة بريطانيا بمستعمراتها لم تكن علاقة الأنا بالآخر، أي علاقة عنصرية، بل كانت علاقة طبقية فرضها المستعمِر على المستعمَر تبعاً للنظام الطبقي في بلاد الأول. لن ندخل هنا في دحض هذه النظرية فقد نالها من سهام النقد، وخصوصاً من المؤرخين الهنود ما يكفي، لكن ثمة ما يستدعي الانتباه في هذا الكتاب وهو أن المستعمِر، وفي صدد فرض طبقيّته على المستعمَر، عمد إلى التزيّن والتبرّج من خلال الاستعراضات الباهرة والعساكر المزهوة ببزّاتهم المزركشة وفرسانهم بخوذاتهم الجميلة والمرعبة معاً وهذه الصفوف المنتظمة التي تمر أمامنا كأنها رُصِفت رصفاً واحداً والموسيقى العسكرية الرنانة وإلى ما هنالك من مظاهر التيه والاختيال والعَظَمة.
لكن مهلاً: ماذا عن الشعوب التي نهبتها أو ذبحتها أو شرّدتها هذه الإمبراطورية التي كانت عزيزة على قلب هذه الملكة؟ ماذا عن فلسطين والهند وكينيا كي لا نعدد غيرها من بلاد آسيا وأفريقيا؟ هل تفوّهت الفقيدة ولو بكلمة واحدة عبر السنين توحي بالاعتذار ولو من بعيد عن جرائم هذه الإمبراطورية؟ هل سمعنا منها كلمة واحدة عن وعد بلفور أو عن مجزرة أمريتسار؟ والغريب في الأمر أن العديد من الألوف التي اصطفت لساعات طوال لوداع نعشها كانوا من الأفارقة والآسيويين الذين طأطأوا الرؤوس أمام نعشها. ويا للسخرية، إذ ينتصب فوق النعش تاجٌ تتصدّره جوهرة «كولينان» المنهوبة من جنوب أفريقيا. أين أنت يا فرانز فانون لتشاهد ما شاهدناه؟
وماذا عن اليوم التالي؟ عاد الناس إلى أعمالهم ووضع البعض صورتها على زر طيّة الجاكيت وعاج الشقيُّ على قبرٍ يسائله وعدنا نسأل عن تكلفة هذه الجنازة المهيبة. هل هي بالملايين أم بالبلايين؟ ومن سيدفعها؟ لا أحد يعرف، بل لعله سؤال وقح مُبتذل في زمنٍ هو خارج الزمن.