بول مخلوف
زيارة خاطفة لحساب مصفّف الشعر اللبناني طوني المندلق على انستغرام تكفي لتمنحنا فكرة عن «الجمالية» التي يصنعها هذا الرجل. تصفيفات الشعر عنده، حتى حين تتكئ بعض القصات على التمويج والتدرج، يبقى سرّها في جعل الشعر أملس مسترسلاً، كرمزٍ عن نعومة ورهافة تتميز بهما صاحبته.
يتعاطى المندلق مع الشعر على أنه «واجهة» جمالية، يصقُل هيبة الوجه ويمنحه إشعاعاً. والجماليّ عند المندلق قائم على النعومة، والطراوة، والملاسة. باختصار ما يعدّ «جميلاً» وفقاً للمعيار اللبنانيّ، بدءاً من الوجه النحيف الهادئ أي «الناعم»، والشعر المسدَل الأملس وغيره، يحوم حول المندلق ويتمركز عنده.
هذا الاسم، طوني المندلق، يعدّ مرجعاً لدى برجوازيات يسعين إلى «لووك» عصري، وصقل جمالهن إلى أقصى (أرقى) المستويات. يمثّل المندلق إذاً علامة ثقافية. الدخول إلى صالونه ليس كالخروج منه. ليس لمجرد زخرفة الشعر و«التزيين» أي الحصول على مظهرٍ «جميل»، إنّما لأنّ الجمالية عند المندلق لها «هوية». صالونه الذي يضمّ ــ كما يتضح ـــ مجموعة ممّن يعرّفهم العصر الجديد بـ«اختصاصيي جمال» وفناني «مايك آب»، أشبه بمختبر الخيميائي.
ثمة «تحوّل» يحدث في الداخل. هناك «قيمة» تكتسبها الزائرة: بصمة ثقافية، هي تتحوّل في صالون المندلق إلى أحد شخوص عبد الحليم كركلا. عند المندلق تكتسي الأنثى هوية لجمالها؛ أصول جمالها «لبنانيّ» محض.
مصفف شعر الاستعمار
هذا العهد الجديد الذي صار يتردد فيه كثيراً اسم إيلي صعب ومصممين آخرين؛ هذا العهد الذي يفيض مهرجانات ومناسبات، وحفلات، عرّفنا إلى بطل من أبطال الثقافة الجديدة. اسم «مكسّر الأرض»: طوني المندلق. في الفيديو نرى: العبوس يهيمن على وجهه ليس لأنه حزين -والعياذ بالله- بل من فرط جديته.
مقصّ الشعر بيده يرقص بين أصابعه رقصاً خفيفاً متقناً. شعر مورغان أورتاغوس مبلول، المندلق يشذب الأطراف، يبتسم لها ثم تبتسم له فيهتز رأسه من شدّة الفرح.
المشهد كله يبدو كأنّه كليب لنانسي عجرم. مورغان أورتاغوس ذهبت عند المندلق وحصلت على تصفيفة شعر جديدة، دفعت أحد صحافيي الدكاكين الإعلامية «تريند بيروت» إلى سؤالها أثناء دخولها إلى عين التينة للقاء رئيس مجلس النواب: «كيف وجدتِ تسريحة الشعر؟» لترد عليه ببهجةٍ عارمة: «هل أعجبتك؟»، وكان جواب مراسل الدكانة الإعلامية… معروفاً.
الفيديو الذي نشره المندلق على حسابه (وطمس خبر خروج رياض سلامة من السجن بكفالة مالية دفعها قدرها 20 مليون دولار) جاء مرفقاً بتعليقٍ كتبه: «المرأة التي كنتم جميعاً في انتظارها».
على أنّ هذه الجملة تشي بأن ثمة مفاجأة نحن بواردها. من هي المرأة التي كنا ننتظرها؟ إنها مورغان أورتاغوس التي لا ينتظرها أحد. غير أنّ طوني المندلق عنى «أننا» ننتظر «مظهر» أورتاغوس الجديد لأن «جمالها»، بعد لمسته الخيميائية السحرية، بات يحمل طابعاً «لبنانياً». شيء من الأيديولوجيا. قومية لبنانية كما نظّر ميشال شيحا؟
ربما. لم تعد أورتاغوس إذاً بعد خروجها من صالون المندلق هي نفسها تلك المبعوثة الأميركية الفجة الفائضة الفظاظة، التي تتكلم بلسان الاستعمار، وتهين السياسيين اللبنانيين وتنطق كلاماً بذيئاً مثلما توجهت ذات مرة لوليد جنبلاط قائلة «أنت تحت تأثير المخدرات». غدت أورتاغوس بعد خروجها من صالون المندلق سندريلا لبنانية: آنسة ناعمة، رقيقة، جميلة كبحر هادئ، كل خصلة من شعرها تحمل سحر الهوية اللبنانية.
حبّ «توكسيك»
في الأشهر القليلة الماضية، قامت السفيرة الأميركية ليزا جونسون برسم وشم أرزة لبنان على يدها. يقرأ هذا الوشم المرسوم على الجسد بوصفه بياناً سياسياً يفصح، من ضمن ما يفصحه، أنّ الأرزة التي ترمز إلى لبنان صارت علامة دامغة على جلد أميركي. هذا يعني أنّ لبنان العهد الجديد، يذوب ذوباناً كاملاً في الدماء الأميركية.
دعوة إلى التمسك بالمقصّ
للقطع مع الإمبريالية وثقافة «الكيتش»
نحن إزاء «هوية بصرية» تتشكّل، ثمة «صورة» محدّثة عن أميركا التي تهيم في «عشق» لبنان. أميركا التي تفرض عقوبات وترعى مصالح إسرائيل، تقدّم لنا نفسها باعتبارها «الأب الحنون»، على أنّ هذا الأب يمتاز بالصرامة إلى جانب حنانه، أو كأنّ هذا «الأب» من فرط ما هو حنونٌ، فهو صارم بالضرورة.
هكذا، ولأن التغيير الذي طاول «مظهر» مورغان أورتاغوس هو تغيير يطاول الهوية، صارت الأخيرة الجميلة والوحش في آنٍ. فقد اتّسم جمال أورتاغوس بهوية لبنانيّة، والجمال اللبناني ينطوي على الرصانة والصلابة.
إلى جانب الروعة، هناك شيء من المحافظة، والأصالة، والتعلّق بالقيم، أي هناك شيء من الشدّة والقسوة. وبالتالي، وبالإضافة إلى كونها «جميلة»، فإنها ذاك «الوحش» أيضاً. هي كذلك لأنها مهتمة «بمصلحة» لبنان كبلد منزوع من السلاح ويحظى أفضل العلاقات مع إسرائيل.
جريدة «النهار»: «الكيتش» بأبهى حلله
نشرت جريدة «النهار» سلسلة صور لمورغان أورتاغوس في تسريحتها الجديدة وهي ترتدي لباساً رسمياً وتزيّن رقبتها في عقد ألماس. وقد عنونت الصحيفة التي تتوجّه إلى جمهور أنظمة الخليج سلسلة الصور كالآتي: «مورغان أورتاغوس… بالبدلة الرسمية الزرقاء: رسائل ديبلوماسية بين الأناقة والسلطة».
لا معنى لكل من المفردتين «أناقة» و«سلطة» سوى «الجميلة» و«الوحش»؛ «أنيقة» لأنها «جميلة» و«سلطوية» مثل «الوحش». تعيدنا «النهار» إلى «جمالية» الزمن اللبناني «الجميل» حين كان لبنان بفضل «المكتب الخامس» والسلطة الأمنية القامعة «جميلاً».
أليس «المستبدّ العادل» هو السياسيّ «الجميل» (بل «الجليل») في أدبيات السياسة اللبنانية؟ عدا عن العنوان «الكيتش»، والركاكة التعبيرية، تبرّر «النهار» تلك الفانتازيا اللبنانية (الشعبوية) التي تقول: «لن يتحسن البلد من دون استعمار».
الرسائل الديبلوماسية التي تتحدث عنها «النهار» هي مونولوغ منسوج بخيوط سميكة من الابتزاز والتهديد وبمفردات تنضح بالقوّة. ولمن يحتاج إلى دليل، فقد أفصحت أورتاغوس عن «رسائلها الديبلوماسية» في مقابلةٍ مع التلفزيون «العربي»: «سنقابل اتخاذ الحكومة اللبنانية خطوة بتشجيع إسرائيل على اتخاذ خطوة أخرى».
وجب على لبنان التنازل أوّلاً فإذاً، ولا ضمانات لنتائج «الصفقة» في حال عقدها، ومن يعشق الأرزة لن يشجع إسرائيل على الانسحاب من النقاط المحتلة قبل نزع سلاح المقاومة. هل يمكن للوحش أن يكون جميلاً؟
نحو «جمالية مضادة»
يحاجج المنظّر الثقافي البريطاني الغاني كوبينا ميسر في مقالته «شعر أسود، مظهر سياسي» (Black hair\style politics) حول تسريحات الشعر عند أصحاب البشرة السوداء. يرى أن تصفيفات الشعر مثل «دريدلوكس» أو «الأفرو» ليست مجرد خيارات جمالية أو موضة إنما «نصوص ثقافية»، في الوقت الذي قد تكون فيه تصفيفة الشعر عند البيض… مجرد تصفيفة شعر.
بالنسبة إلى المجتمع الأسود، فإنّ التسريحة رمز للمقاومة ولما يسميه «الوعي المزدوج»، إذ يعبّر الأسود عن احتجاجه في زمن الحاضر، كونه فخوراً بتاريخه كأسود.
يعتبر ميرسر أنّ تصفيفة الشعر المموّجة والملساء (مثل تلك التي فعلتها أورتاغوس) خيانة لتسريحة «الأفرو» المعروفة عند السود. فالشعر المموّج، بالنسبة إليه، هو بكل بساطة محاكاة للبيض، أي التماهي التام مع المعايير البيضاء. ففي الشعر المموج، يتحوّل الشعر الأسود من شعر خشن إلى شعر ناعم ولامع يشبه الشعر الأوروبي.
تصفيفة الشعر المموج تخرج السود من حالة «الطبيعي» إلى حالة «المصطنع»، وهذا ينعكس على المجتمع الأسود حيث تتحول السياسة من عمل «جماعي» لتطغى النزعة «الفردية»، وينتقل المجتمع من حالة الثورة إلى الاستهلاك، ومن الوضوح إلى الغموض.
لا تنفصل «الجمالية» اللبنانية في معاييرها عن الجمالية البيضاء في أيّ حال، مهما حملت- الجمالية اللبنانية- في جوهرها أخلاقية مستقاة من عالم «سفر برلك» ومناخات فرقة «مياس» ولا تشبه مسلسل «باي ووتش» (Baywatch) بالكامل.
في النعومة والملاسة والإطلالة البهية، لا يجد الأميركي نفسه غريباً. وإذا اضطر الامتثال إلى بعض القيم حتى يبدو ذائباً بالكامل في «اللبنانية»، و«واحداً منا»، فهو يلجأ إلى الفولكلور ويرسم وشم الأرزة.
يأخذ الأميركي «الجمالية» اللبنانية (التي لا يصدّرها لنا بمعظمها) كحصان طروادة ليقتحمنا وبالأحرى، ليستعمرنا، سياسياً. تصفيفة شعر أورتاغوس عند المندلق دعوة إلى التفتيش عن جمالية مضادة تأتي في موازاة خياراتنا السياسية المضادة، للهيمنة وللاستعمار. إنها دعوة إلى مقاطعة «مثقفي التفاهة» بتعبير ألان دوبوتون، والتمسك بالمقصّ لحاجته في القطع مع الإمبريالية وثقافة «الكيتش».
أخبار سوريا الوطن-الأخبار