يشكل موسم الزيتون في محافظة اللاذقية أحد أهم مواسم الإنتاج الزراعي، إلا أن هذا العام حمل للفلاحين خيبة أمل كبيرة، لا لكون السنة سنة “معاومة” فقط، بل بسبب التراجع الحاد في الإنتاج مقارنة بالسنوات الماضية التي كانت “معاومة”.
موسم شحيح وصمت رسمي
موسم الزيتون في اللاذقية هذا العام يبدو مأساوياً بالنسبة للكثير من العائلات، التي تعتمد عليه كمصدر رئيسي للعيش، التأثير الكبير على الإنتاج نتيجة الجفاف، الحرائق، وارتفاع تكاليف الإنتاج أضاف عبئاً إضافياً على المزارعين، الذين يشعرون بالحيرة بسبب ضعف الدعم وغياب الحلول الفعالة.
إن غياب الموسم الجيد هذا العام يعني أن العديد من العائلات التي تعمل في الزراعة ستكون بلا مصدر دخل، خاصة مع الظروف القاسية التي فرضتها الطبيعة بزيادة تكاليف المحاصيل مثل الزيت والزيتون، فإن القدرة الشرائية للعديد من المواطنين، حتى في المناطق الريفية، تآكلت بشكل كبير، إذ أصبح الزيتون والزيت باهظ الثمن على حد سواء، والعديد من العائلات التي تحتاج إلى الزيت كمنتج أساسي في حياتها اليومية تجد نفسها غير قادرة على تحمله.
وفي استطلاع لصحيفتنا “الحرية” أكدت الٱراء في غالبيتها على تأثر العائلات بعدم وجود موسم زيتون جيد هذا العام، من حيث قلة فرص العمل التي تشكل للكثير من العائلات مصدر عيش، فإن غياب الموسم هذا العام يعني غياب الدخل السنوي المعتاد، وبالتالي سيؤثر على ارتفاع أسعار الزيت والزيتون، وهذا سيؤثر على الفئات الأقل دخلاً، وسيشكل عبئاً ثقيلاً على الأسر التي لا تجد قوتها اليومي إلا من خلال هذه المنتجات، فهذه الأسر ليست قادرة على تحمل أسعارها المرتفعة، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهذا يؤثر أيضاً على عمليات البيع والشراء في الأسواق، بالإضافة إلى حيرة في التسعير، فهناك ترقب كيف ستتعامل الحكومة مع تسعير الزيتون والزيت، هل ستنصف الفلاح الذي عانى طيلة موسم شحيح، أم ستستمر الأسعار في الارتفاع وتؤثر بشكل أكبر على المواطن العادي؟
الفلاحون والمنتجون في اللاذقية يشعرون بأنهم في مواجهة مجهول، وسط خليط من التحديات المناخية أبرزها الحرائق المتكررة والجفاف، وتدهور الخدمات الزراعية، وغياب الدعم التقني والمادي من الجهات المعنية، إضافة إلى تحديات اقتصادية أثقلت كاهل الفلاحين وأضعفت قدرتهم على رعاية أشجارهم كما يجب.
مناخ قاسٍ وتكاليف تقصم ظهر الفلاح
جفاف وحرائق.. والمزارع وحده في الميدان
موسم هذا العام خذل الفلاح بكل ما تعنيه الكلمة، بهذه العبارة افتتح الفلاح اسماعيل أبو علي من ريف جبلة حديثه لصحيفتنا “الحرية” معبراً عن واقع مرير لأشجار الزيتون، قائلاً: لم تهطل الأمطار كما يجب، وهبت رياح قوية في فترة الإزهار، ما أثر على العقد والنتيجة أن الأشجار لم تثمر كالمعتاد، كما أننا لم نتمكن من تسميد الأرض ولا رش المبيدات بسبب الأسعار الجنونية.
أما في ريف القرداحة، فلم يختلف الحال كثيراً، إذ أشار أحد المزارعين هناك إلى أن تكاليف الإنتاج أصبحت تفوق قدرة الفلاحين، السماد غال، والأدوية الزراعية غير متوفرة بسهولة، وإن وجدت فهي بأسعار تعجيزية، كأننا نزرع في الصخر دون معين، فلا يوجد دعم حقيقي من الجهات المعنية، وفي النهاية لم نتمكن من العناية بالأشجار كما يجب.
وتكرر الكلام ذاته في أرياف المحافظة، الحفة- الدالية- البودي – بيت ياشوط- كلماخو- المزيرعة- البسيط- جبل التركمان- جبل الأكراد- البهلولية …الخ، حيث أجمع الفلاحون على أن الظروف المناخية القاسية من شح أمطار، وحرارة مرتفعة في غير أوانها، وحرائق أتت على مساحات من الزيتون، قد ضربت الموسم في مقتل دون وجود تعويضات أو تدخلات حكومية فعالة، بحسب تعبيرهم.
غياب المعالجات الجذرية يُضعف الإنتاج
تصريح سابق يكشف هشاشة الموسم
ورغم توجيه “الحرية” عدداً من الأسئلة والاستفسارات إلى مديرية زراعة اللاذقية منذ أكثر من خمسة عشر يوماً، بخصوص الإحصائيات الأولية للموسم، وأسباب تدني الإنتاج، والآفات التي أصابت الأشجار، وتأثير الحرائق، إلا أنه لم يتم الرد حتى تاريخ إعداد هذا التحقيق، ما دفعنا للاعتماد على مصادر مستقلة من الفلاحين، وتصريح سابق لرئيس اتحاد الفلاحين، وآراء اختصاصيين من ندوة علمية حديثة عقدت في اتحاد الفلاحين باللاذقية.
ففي تصريح سابق لصحيفتنا “الحرية”، ذكر ماجد حمو رئيس اتحاد فلاحي اللاذقية، أن الموسم الحالي شهد تدنياً كبيراً بالإنتاج مقارنة بالعام الماضي، نتيجة حالة الجفاف التي سادت، وتدني الهطولات المطرية، وموجة الصقيع في آذار، التي أثرت سلباً على عقد الزيتون، مبيناً أن هذه السنة “معاومة” أي أنها تأتي بعد سنة غزيرة، فيتراجع فيها الإنتاج طبيعياً، لكن ما زاد الطين بلة هو العوامل المناخية، والتراجع الكبير في الخدمات والدعم الزراعي، وقُدّر محصول الزيتون في اللاذقية لهذا العام بـ (57,881) طناً، وهو رقم أقل بكثير من متوسط إنتاج السنوات السابقة.
الفلاح في مواجهة المجهول..
بعيداً عن التحديات الاقتصادية، ناقش عدد من الخبراء الزراعيين واقع شجرة الزيتون من الناحية العلمية، وذلك خلال ندوة متخصصة أقيمت بتاريخ 8/11/2025 في قاعة اتحاد الفلاحين باللاذقية، بعنوان: “أمراض وآفات الزيتون وسبل مكافحتها” حضرتها “الحرية” في الندوة قدم الدكتور خيام محرز اختصاصي الأمراض الفطرية في مركز البحوث العلمية الزراعية باللاذقية، عرضاً علمياً مفصلاً حول مرض الذبول الفرتيسليومي، مشيراً إلى أنه مرض خطير يصيب الأوعية الناقلة لشجرة الزيتون، ويسبب جفافها وتدهور إنتاجها، وقد يؤدي إلى موتها خلال عامين في الحالات الشديدة، ولا يوجد علاج كيميائي يضمن الشفاء التام، لذلك فإن الوقاية والزراعة وفق توصيات علمية هو الحل، مشدداً على أهمية الابتعاد عن زراعة الزيتون بجوار محاصيل حساسة كالبندورة والفليفلة، لكونها تساهم في انتشار العدوى الفطرية، كاشفاً عن تجارب حديثة لحقن الأشجار بمبيدات خاصة تقلل من شدة الإصابة لكنها لا تعالجها نهائياً.
آفة “ذبابة الزيتون” الجائحة الصامتة
من جانبها، قدمت الدكتورة زهراء بيدق رئيسة دائرة وقاية النبات في المركز ذاته، عرضاً علمياً حول ذبابة ثمار الزيتون، التي وصفتها بأنها واحدة من أخطر الآفات الزراعية في حوض البحر المتوسط، وهي حشرة لا تصيب إلا ثمار الزيتون، وتتكاثر بشكل كبير في مناخ الساحل السوري، حيث يمكن أن تنتج حتى خمسة أجيال في موسم واحد، إذا توفرت الظروف المناسبة.
وفي تصريح خاص لـ “الحرية”، أكدت بيدق أنه عندما تتوفر الظروف الرطبة والمعتدلة، فإن هذه الآفة تتحول إلى ما يشبه الجائحة، تؤدي إلى خسائر كبيرة في كمية الزيت وجودته، وتتطلب جهداً وتخطيطاً ممنهجاً لمكافحتها.
غياب التخطيط والدعم والفلاح يدفع الثمن
في ظل هذا المشهد المعقد – من الحرائق، والتغير المناخي، وتدهور الخدمات الزراعية، وغياب الدعم الفني الحقيقي – يبدو أن شجرة الزيتون، رمز الاستقرار الزراعي في الساحل السوري، تواجه موسمها الأصعب منذ سنوات، ويبقى الفلاح في اللاذقية يواجه التحديات وحيداً، بلا خطة حكومية واضحة، ولا استجابات ميدانية فورية، في وقت تتوسع فيه الأمراض والآفات، وترتفع فيه التكاليف، ويغيب فيه العائد المجزي.
فهل تتحرك الجهات المعنية قبل أن يذبل ما تبقى من هذه الشجرة المباركة؟
حتى إشعار آخر يبقى موسم الزيتون ضحية لعوامل الطبيعة وسكوت المعنيين
وأمام هذا الواقع، يقف الفلاح وحيداً في مواجهة تحديات موسمه الأساسي، من دون تأمين مستلزمات الإنتاج، ولا تسهيلات تمويلية، ولا استجابة سريعة من الجهات المعنية، بينما يبقى السؤال مفتوحاً: إلى متى سيبقى الفلاح يدفع ثمن الإهمال والاحتباس الحراري وتردي السياسات الزراعية في إيجاد الحلول؟
فهل تتحرك الجهات المعنية قبل أن يذبل ما تبقى من هذه الشجرة المباركة؟
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية