علي الأحمد:
من كان يتوقع، أن تصل الأمور بهذا الفن ، الى هذه الدرجة من الخفة والاستسهال، بحيث أصبح من قادته الظروف السيئة و”أمور أخرى” ، أن يشارك “إبداعه” جمهوره الكريم، الذي هو “نحن” ومن دون حتى رفة جفن أو وخزة ضمير، هكذا وبكل بساطة، يتم هدم بنيان الميراث الروحي لهذا الفن النبيل الأصيل، من قبل متطفلين وأدعياء، يعيثون فساداً وهدماً، بهذا البنيان الجميل، ليقيموا على أنقاضه صناعة متكاملة، “لنجوم” عابرين، ولمنتوج فقير على المستويين الذوقي والجمالي، والنتيجة باتت معلومة للجميع ولاحاجة الى سردها من جديد.
أما إذا أردنا أن نقف على أسباب هذا النكوص والانهيار الذي طال بنية وبنيان هذا الفن، فإننا وقتها سنحتاج الى هذه السردية، خاصة في هذه الألفية الثالثة، التي قلبت المعايير رأساً على عقب، وباتت المفاهيم والأصول والقواعد القديمة غير ذي بال، لدى الموسيقي المعاصر، الذي يشارك بقصد أو بدونه، في هذا الكرنفال المبهرج، من الأعمال التجارية الحسية ، التي تتسيّد المشهد حتى في موسيقات العالم ككل. حيث انزوت الموسيقى الإنسانية البديلة، بعيداً خلف ضباب وسواد هذا المشهد العبثي، الذي يتحرك على وقع أسهم “بورصة” المال الأسود،لتجار هذا الفن، ليقضي على خصوصية ومكتسبات الهويات الوطنية الموسيقية، نحو هوية واحدة معولمة بلغتها الوحيدة اليتيمة ، وجواز سفرها المزور، حيث الجميع متشابهون ضمن أنساق ثقافة الجميع أي ثقافة( لا أحد) على رأي أحد المفكرين العرب الدكتور “الطاهر لبيب” وهذا يعني فيما يعنيه، تجذير وتأبيد التبعية لهذه المنظومات الأيديولوجية، بأقنعتها المتعددة، والاستسلام والانقياد الأعمى لثقافتها الوضيعة، التي تحاول إحداث قطيعة معرفية مع هذا الميراث الروحي لدى الشعوب، بحجة أن الموسيقى لغة عالمية، وهذا مافندته تجربة الشعوب عبر التاريخ بماتمتلك من خصوصية وهويات مائزة وتقاليد زاخرة بالمعاني التعبيرية الأصيلة التي شكلتها حكمة وروح الشعب على مدى التاريخ، ولهذا لايمكن الركون أبداً والثقة العمياء الى ثقافة هذه المنظومات، من منطلق الحفاظ على إرث وتراث الهوية الثقافية الوطنية، وإلا لغابت جماليات الدور والموشح والقد في موسيقانا العربية كأمثلة، كما في الراجا الهندي أو القوال الباكستاني، او “الفادو” البرتغالي وغيرها من تقاليد موسيقية.
وتبقى المسألة رهينة بمفهوم الابداع والاتباع، وبطريقة فهم الموسيقي العربي لسيرورة الحداثة وتأصيلها في نتاجه المغاير ، من منطلق تأكيد الذات وإثبات الشخصية الثقافية المائزة ، في عالم مضطرب بلا هويات، فقد عقله ورشده مرة واحدة، بسبب صعود الغرائز المنحطة، وانهيار القيم ، والتجارة بكل شيء حتى بالمجالات الروحية للفنون، وتحويلها الى مجرد صناعة آلية ميكانيكية، لاروح فيها ولاحياة، بالرغم من كل الانتفاخ الإعلامي والتكنولوجي الذي يرافقها منذ ولادتها وتعليبها وتغليفها بإكسسوارات براقة تخطف الأنظار والقلوب ، وكله في خدمة المتلقي العربي وارتقاءاً لذائقته المعطوبة.
في هذا المشهد العجائبي، ماعلى الموسيقي العربي أن يفعل؟ وهو مكبل الإرادة ومحبط الى درجة اليأس، وهو يرى كيف تهدر وتبذر الملايين على منتوج موسيقي يموت لحظة ولادته يلفظ أنفاسه سريعاً لأنه يفتقر الى اوكسجين الحياة والى تلك الروح الخلاقة التي أقامت وأنشئت البنيان السامق لموسيقانا العربية الأصيلة، التي استحقت موقعها ومكانتها في ثقافات العالم، لسبب بسيط، وهو روح الالتزام والانتماء الى فضاءات هذا الفن، وتقاليده الموروثة التي شكلتها على مدار الأزمنة، ذهنية فكرية منفتحة، على عوالم ومدارات التجربة الإنسانية حين كان الموسيقي العربي، يرتحل دوماً نحو كل مايثري هويته الموسيقية،من دون عقد أو دونية وتصاغر نحو الآخر المغاير كائناً ماكان.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة