منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإقرار اتفاقيات بيرتون وودز المؤسسة لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين، احتل الدولار الأمريكي مكانة مسيطرة على صعيد الاقتصاد العالمي، وأصبح عملة الاحتياط النقدي لأغلب الدول، حتى تلك التي لا ترتبط بعلاقات ودية مع واشنطن باعتباره عملة التجارة الدولية الأولى.
ولكن يبدو أن هذه المكانة بدأت تهتز في ظل اتجاه العديد من الدول المهمة اقتصاديا وبخاصة روسيا والصين إلى البحث عن عملات بديلة سواء لاستخدامها في المبادلات التجارية أو تكوين احتياطيات النقد الأجنبي لديها.
وفي حزيران/يونيو من العام الماضي قال الرئيس الروسي خلال اجتماع لتجمع دول “بريكس” الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا “يجري بحث إيجاد عملة للاحتياطي الدولي على أساس سلة عملات دولنا”.
وأطلقت روسيا والصين محاولة أخرى لتطوير “عملة احتياطي عالمية”، بمعنى أن الدولتين بدأتا الهجوم على الدولار الأمريكي بحسب المؤرخ والمحلل الاستراتيجي الأمريكي جوردون جي تشانج في تحليل نشره موقع معهد جيتستون الأمريكي للأبحاث.
وفي مقال نشره موقع “زيرو هيدج” المعني بالموضوعات المالية والذي يسمح للكتاب بنشر مقالاتهم باسماء مستعارة، قال كاتب أطلق على نفسه اسم تيلر بوردين إن ” تحديا عالميا منسقا للدولار الأمريكي، سيكون أهم خبر في العالم منذ عقود… المدهش أننا لا نرى أحدا مهتما بإمكانية حدوث أكبر تحول في مجال الاقتصاد الكلي العالمي خلال نصف قرن”.
ويقول جوردون جي تشانج أحد كبار زملاء معهد جيتستون البارزين وعضو المجلس الاستشاري له إن “هناك دولة وحيدة هي التي تستطيع القضاء على الدولار وليست من دول بريكس، إنها الولايات المتحدة، فالرئيس الأمريكي جو بايدن هو أكبر حليف لروسيا والصين في محاولة القضاء على الدولار”.
فعملات دول بريكس ضعيفة. ورغم القوة المفاجئة التي أظهرها الروبل الروسي مؤخرا، فهو يبدو في حالة تدهور لا يمكن التراجع عنه على المدى الطويل. علاوة على ذلك، فالعدوان الروسي على أوكرانيا عزز صورة روسيا باعتبارها دولة منبوذة. أما جنوب أفريقيا فإنها تمضي عكس التيار، والبرازيل تواجه احتمال فوز مرشح اليسار في انتخاباتها الرئاسية المقبلة، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها كثيرا. أما الهند فهي قوة اقتصادية بالتأكيد لكنها تبحث عن تعزيز ثرواتها وغير مستعدة للقيادة المالية أو الاقتصادية على الصعيد الدولي.
معنى ذلك أن نجاح فكرة إيجاد عملة للاحتياطي النقدي لدول بريكس يتوقف على اليوان الصيني.
ويشعر كثيرون بالتفاؤل بشأن مستقبل العملة الصينية المعروفة باسم “العملة الحمراء” في مواجهة الدولار “العملة الخضراء”. على سبيل المثال يتحدث ديفيد جولدمان عن “الجنوب العالمي” الذي تشكله الصين حاليا، ويقول إن استخدام اليوان سيتزايد في العالم.
ورصدت بكين زيادة في استخدام عملتها في أيار/مايو الماضي، عندما شكل حوالي 15ر2% من إجمالي المدفوعات العالمية، بحسب بيانات نظام تسوية المدفوعات العالمي المعروف باسم “سويفت”، وهو ما جعل اليوان خامس أنشط العملات في العالم. وكانت حصة اليوان من المدفوعات العالمية في نيسان/أبريل الماضي 01ر0% فقط. ومع ذلك فإن الحصة في أيار/مايو الماضي كانت أقل منها في نيسان/أبريل الماضي عندما بلغت 2ر3% ليكون رابع أنشط عملة في العالم في ذلك الشهر.
وهناك سبب يمنع تحول اليوان إلى عملة دولية بسرعة وهو عدم سماح الصين بالتحويل الحر لليوان إلى العملات الأخرى. وفشل قادة الصين باستمرار في جعل عملتهم عملة حرة. فقبل الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 تعهدت الصين بتحرير العملة المحلية بنهاية القرن العشرين. وفي كانون الثاني/يناير الماضي تعهد يي جانج الذي كان يشغل منصب الإدارة العامة للصرف الأجنبي بتحرير تحويل اليوان إلى العملات الأخرى في الحسابات الرأسمالية خلال خمس سنوات. ومرت السنوات الخمس ولم يتم تحرير العملة الصينية التي مازالت خاضعة لسيطرة الدولة بدرجة كبيرة.
ويقول جوردون جي تشانج إن الصين تحت حكم الحزب الشيوعي لا تستطيع السماح بحرية تحويل اليوان الصيني. فالنموذج الاقتصادي للصين يعتمد على توافر النقد الرخيص للمؤسسات والبنوك العامة والذي يعني خفض البنك المركزي الصيني لأسعار الفائدة على الودائع بشدة. فإذا كان في قدرة المودعين تحويل مدخراتهم من اليوان إلى أي عملة أجنبية أخرى، فستجد البنوك الصينية صعوبة في الاحتفاظ بالودائع دون زيادة أسعار الفائدة.
وفي اللحظة الراهنة يسعى أصحاب السيولة النقدية في الصين إلى إخراج أموالهم من النظام المصرفي الصيني الذي يواجه أزمة طاحنة نتيجة عجز العديد من شركات التطوير العقاري الكبرى عن سداد ديونها، وهو ما يمكن أن يهدد بانهيار مالي للصين ككل.
وإذا كان الصينيون والروس يسعون إلى ضرب هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي منذ عقود، فإن هناك فرصة حقيقية للنجاح في الوقت الحالي رغم كل شيء.
ويرى جي تشانج أن سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن الحالية تهدد ثقة العالم في الدولار كعملة احتياطي، والتي يجب أن تكون مستقرة وتعتمد على اقتصاد قوي وكبير، مع حرية تحويلها إلى أي عملة أخرى وضرورة استخدامها على نطاق عالمي واسع.
ويضيف جي تشانج أن سياسات الإنفاق الجنونية للرئيس بايدن ستؤدي فيما بعد إلى إضعاف الدولار وبالتالي يفقد جاذبيته كمخزن للقيمة. ويتم تمويل الإنفاق الحكومي من خلال الاستدانة، ليصل إجمالي الدين العام الأمريكي إلى 64ر30 تريليون دولار. فلا أحد يريد الاحتفاظ بثروته في صورة عملة تتراجع قيمتها باستمرار.
علاوة على ذلك، يدفع بايدن الاقتصاد الأمريكي نحو دائرة الركود، مع سياساته التي ستؤدي إلى استمرار التدهور. في الوقت نفسه يبدو بايدن كما لو كان يحاول قتل الدولار، بسياسات تهدد مكانة الدولار كعملة احتياطي عالمية وهي المكانة التي تمثل “مصلحة أمريكية أساسية”.
أخيرا لا يجب أن يراهن الأمريكيون كثيرا على استمرار عملتهم كعملة احتياطي عالمية بسبب عدم وجود بديل قادر على منافستها. فالصين وروسيا تحاولان باستمرار إيجاد هذا البديل، ولذلك فهما تضغطان بشدة من أجل تطوير “عملة بريكس” كعملة احتياطي تعتمد على العملات المحلية لدول التجمع.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم