| حسين ابراهيم
قد ينتهي المونديال بالنسبة إلى قطر، مع انطلاق صافرة بداية المباراة الأولى التي تَجمعها مع الإكوادور، بغضّ النظر عن إمكانية تَقدّم «العنابي»، والذي يتمنّاه الجميع في المسابقة ذاتها، كما يتمنّاه لكلّ المنتخَبات العربية الأخرى المشارِكة. المقصود بتلك الاستعارة هو أن المباراة الأولى، ستكون بمثابة تتويج للجهد الهائل الذي بذلتْه الدوحة لاستضافة المونديال، منذ لحظة الفوز بتنظيمه والتي رافقها الكثير من اللغط، ولا سيما الحديث عن رشاوى لقادة «الفيفا»، كما وجود قرار دولي «كبير» آنذاك بمنْح الدوحة ذلك «الشرف»، مروراً بالإنفاق الضخم الذي وصل إلى 220 مليار دولار، وصولاً إلى انعكاس كلّ ما تَقدّم على الدور الإقليمي والعالمي البارز لهذه الدولة. وهو دورٌ يَظهر أن «الطلب» العالمي سيزداد عليه، مع تعاظُم التشابك في الصراعات بين الدول، والتي يتطلّب بعضها تدخُّل ديبلوماسية ذات ذراع مالية طويلة، تَجمع المفارقات والتناقضات، وقادرة على التحدّث مع الجميع
عادةً ما تستميت دول كثيرة لاستضافة حدث رياضي عالمي كالمونديال، وتتعامل مع فوزها بالتنظيم باعتباره «جائزة»، لِما له من فوائد على الصعيد المالي، والترويج الثقافي والسياحي الأبعد مدًى للبلد المُضيف. في حالة قطر، لا فائدة مالية كبيرة تُرتجى من المونديال، والترويج هذه المرّة يأتي بطعْم السياسة أكثر منه ثقافياً، وإنْ كان إظهار الثقافة العربية الخليجية واحدة من الفوائد التي لا جدال فيها، والتي ستتأتّى من ذلك الحدث. مظاهر الترويج السياسي لدور قطر «العالمي»، تطلّ سريعاً من بين المشاهد الملوَّنة التي تَحفل بها الإمارة حالياً. والكثير منها، بلا شكّ، مفتعَل لاستكمال الصورة التي يجب أن تكون عليها كأس العالم، بغضّ النظر عن الاتّهامات المُوجَّهة إلى الدوحة بتوظيف جمهور «غير حقيقي»، هندي في الغالب، وعربي بالدرجة الثانية، بديلاً للجمهور «الحقيقي» الذي لم يأتِ بأعداد كبيرة. وهو عزوفٌ يُعزى إلى أسباب كثيرة، بينها ما هو تقني محض مِن مِثل أن المونديال يُنظَّم للمرّة الأولى في تاريخه خارج موسم الإجازات الصيفي، وبينها ما هو سياسي واقتصادي، بالنظر إلى ما يعيشه العالم من أزمة مركّبة تَجمع تضخّماً كبيراً أفقرَ الكثير من سكّانه وشغَلهم عن الاهتمام بالحدث، وتحوّلات سياسية وعسكرية من النوع الذي قد يغيّر التوازنات القائمة، ويترك تأثيراته على الخريطة العالمية برمّتها في السنوات المقبلة.
إلّا أن المظهر الأكثر استفزازاً، هو مشهد التطبيع مع العدو، والذي سمحت به الدوحة للمناسبة، واستغلّته إسرائيل إلى الحدّ الأقصى، فسبق التلفزيون الإسرائيلي الجميع إلى البثّ المباشر من مركز الحدث، وهل تحلم دولة الاحتلال بأفضل من المونديال لمحاولة تنظيف صورتها الملطَّخة بالدم الفلسطيني؟ في هذا المحفل، لا تفيد كثيراً محاولة إقامة التوازن من خلال المبالغة في «تدليل» المشجّعين الفلسطينيين، تزامُناً مع اتّخاذ قرار السماح بإقامة خطّ جوّي مباشر بين تل أبيب والدوحة لنقل «المشجّعين» الإسرائيليين الذين يُتوقّع أن يَحضر منهم بين عشرة آلاف وعشرين ألفاً – في ما يبدو تدفّقاً مقصوداً؛ إذ من غير المعروف عن الإسرائيليين شغفهم بكرة القدم -، فضلاً عن فتْح مكتب اتّصال إسرائيلي في العاصمة القطرية لرعاية شؤونهم، لا يخفي العدو رغبته في تحويله إلى مكتب دائم. ولذا، تُصبح الصورة الفلسطينية هناك، مثلما هي في الواقع السياسي، من متمّمات الدور، تماماً كما أن العلاقات مع فصائل المقاومة الفلسطينية، واستضافة بعض قادة حركة «حماس» في الدوحة، والمساعدات التي تُقدّمها قطر للفلسطينيين، تخدم الدور المذكور، وإنْ كان ذلك يظلّ أفضل بما لا يُقاس ممّا تفعله دول خليجية أخرى تتآمر على الفلسطينيين وقضيّتهم، من دون أن تقدّم لهم أيّ مساعدات، من مِثل السعودية والإمارات.
ولأن الدور مرسوم سلفاً، في إطاره العام على الأقلّ، من مركز القرار خلْف البحار، ربّما في لاتامبا في فلوريدا حيث مقرّ القيادة الأميركية الوسطى، فإن كلّ المتمّمات لن تفلح في حجب هذا الواقع، بما فيها الأغنية الفلسطينية المُهداة إلى منتخب قطر الوطني: «تحية فلسطينية… وبنلوحلو بالكوفية»، والتي تظلّل الفيديو المُرافقَ لها هالةُ الموروث البلدي الفلسطيني، بل والتراث الثوري الذي رافق صعود المقاومة الفلسطينية بأناشيده الحماسية، حتى لَيبلغنّ بك الظنّ أن المشهد التالي سيكون مجموعة من المقاتلين وهم يلوّحون برشاشات الكلاشينكوف ويطلقون بضع صليات من رصاص الابتهاج في الهواء. فبِغير ذلك، ما كانت قطر لتنال «شرف» التنظيم مِن بين المنافسين الكبار والشرسين عادةً، ولا سيما في ظلّ ما رافق قرار «الفيفا» في حينه من اتّهامات بالمحاباة وبالخضوع لقرار دولي بمنْح قطر حقّ التنظيم. ومع هذا، فـ«التحية الفلسطينية» والعربية مستحَقّة لـ«العنابي»، الذي يستأهل كلّ التشجيع بصفته منتخَباً عربياً خارجاً من شعب قطر، ولا سيما أن التطبيع مرفوض شعبياً في الإمارة، مثلما هو مرفوض من كلّ الشعوب الخليجية والعربية، وفق ما يشير إليه البيان الصادر عن «تجمّع شباب قطر ضدّ التطبيع»، رفضاً لاتفاقية التطبيع المونديالي مع العدو.
المبالغة في «تدليل» المشجّعين الفلسطينيين لا تُخفي فداحة «التطبيع المونديالي» مع العدو
ولأن المسألة مسألة أدوار في المقام الأوّل، فلا ريب في أن مونديال قطر يثير حسد نظامَي السعودية والإمارات اللذَين ينافسان الجار، مرّة حبّاً ومرّات صراعاً، على هذا الدور، وأيّ عداوة أخطر من «عداوة الكار»؟ ولذا، فإن ما يجب رصده جيّداً بعد أن تضع الحروب الرياضية أوزارها، هو الانعكاس الذي سيكون للحدث على قطر، التي استثمرت كثيراً في بُنيتها التحتية لمنافَسة جارتَيها المتفوّقتَين، الأولى بفعل حجمها وتَحكّمها بأسواق النفط العالمية، والثانية بالدور الذي تلعبه منذ سنوات طويلة كمركز إقليمي – دولي تتّخذه الشركات العالمية مقرّاً رئيساً لاصطياد العقود من دول الخليج النفطية كافة، في انتظار ما ستؤول إليه أوضاع الإمارات نتيجة قرار وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، توفير البنية التحتية والاجتماعية المناسبة لاستضافة تلك الشركات في المملكة. فَلْنقارن، مثلاً، بين نجاح قطر في استضافة كأس العالم، وبين فشل السعودية في اجتذاب لاعب واحد مِن مِثل ليونيل ميسي أو كريستيانو رونالدو لزيارة المملكة بغرض الترويج لها، على رغم المبالغ المالية الطائلة التي رصدها تركي آل الشيخ منذ سنوات، لاستضافة أحدهما أو كليهما.
ولأن حجم قطر التي لا يصل عدد مُواطنيها إلى نصف مليون نسمة، غير متناسب مع حدث كبير من هذا النوع، فلا ضيْر في أن «تستعير» بعض الجماهير لإضافة نكهة لا يستقيم المونديال من دونها. وبغضّ النظر عن حجم استقدام جماهير للتشجيع، سواء لمنتخَب قطر أو للمنتخَبات الأخرى، فإن بعض مشاهد المشجّعين في فيديوات تمّ تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، انطوت على مفارقات مضحكة مِن مِثل استخدام الهنود الذين يشكّلون النسبة الطاغية من العمالة في الخليج، ومِن ضمنه قطر، لتشجيع منتخَبات أوروبية أو من أميركا الجنوبية، فهل سيصدّق أحد أن مشجّعي المنتخَب الأرجنتيني، مثلاً، أو البلجيكي، غالبيّتهم من ذوي سحنة سكّان شبه القارة الهندية؟ هذا مع العلم أن الهنود مولَعون برياضات أخرى مثل «الكريكت»، ولا تعنيهم كثيراً كرة القدم، إلى درجة لم يخرج في تاريخ الهند ذات الأكثر من مليار نسمة، 11 لاعباً يمثّلونها في مونديال «الساحرة المستديرة». ومن الواضح أن استخدام هؤلاء، إذا صحّ، كان بغرض توفير المال؛ فهم مقيمون في الدولة بالفعل، ولا يحتاجون إلى طائرات تقلّهم أو فنادق تؤويهم. لكن كان الأجدى بقطر أن تستقدم المزيد من المشجّعين العرب، فهؤلاء سيتعاطفون بشكل طبيعي مع المنتخَبات العربية، ومنها «العنابي». كما كان يمكن لذلك أن يمثّل استجابة لبعض العتب على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبَل يمنيين، حول سبب عدم استقدام الدوحة بضعة آلاف منهم، تعويضاً عن انضمامها إلى تحالف العدوان، ولو صُورياً، في بداية الحرب.
ومن بين التلوينات التي جرى الحديث عنها لإضفاء طابع خليجي أوسع على المونديال، ولا سيما أن المنتخَب السعودي متأهّل وسيَحضر معه جمهوره الذي قد يكون الجمهور «الحقيقي» الأضخم، نظراً إلى التجاور الجغرافي مع قطر وانتفاء الحاجة إلى تأشيرة دخول – وإنْ كانت الدوحة تحاول الحدّ من تدفّق المشجّعين السعوديين عبر الأحساء -، أن قوات «درع الجزيرة»، ومعظمها سعودية، دخلت قطر للمساهمة في تأمين المونديال. فالحامي الحقيقي لـ«السيستم» كلّه، هو القاعدة الأميركية في العُديْد، التي كانت السبب الأساسي في الحؤول دون دخول تلك القوات الأراضي القطرية غازيةً في عام 2017، حين أوشكت على اجتياح الإمارة الجارة للإطاحة بحُكم تميم بن حمد، في ذروة الخلاف بين الدوحة وبين «رباعيّ المقاطعة» الذي ضمّ السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وأحْكم الحصار على الأولى حتى الخنْق.
ولذا، فقبل انطلاق صافرة المباراة الأولى بينها وبين الإكوادور، تكون قطر قد حقّقت معظم المُراد من هذا الحدث الذي سيقدّم صورة مختلفة لها بوصْفها دولة ذات بنية تحتية عالمية المواصفات، قادرة على القيام بدور المركز الإقليمي بالمنافسة مع الإمارات والسعودية – وهي التي لعبت بالفعل أدواراً سياسية تتجاوز حجمها بكثير في هذه المنطقة المضطربة -، وذلك على رغم كلّ المنغّصات التي واكبت اقتراب موعد الحدث، والتي تبدأ بقضية حقوق العمّال الذين قامت الصروح المُضيفة للمباريات على أكتافهم، ولا تنتهي بقضية استقدام جمهور «غير حقيقي» وإلباسه «فانيلات» المنتخَبات المشاركة. وأعدّت الدوحة العدّة جيّداً لـ«احتضان الكوكب»، كما تقول الأغنية الفلسطينية المُشار إليها، فهي وحدها مَن تستطيع إنفاق 220 مليار دولار على البنية التحتية التي جرى بناؤها خلال ثماني سنوات، خصّيصاً لاستضافة الحدث، بما فيها الملاعب الثمانية والفنادق الكثيرة، وهو مبلغ لن تستعيد منه الكثير، لا خلال المونديال، ولا خلال «سياحةِ» ما بَعده، كما يأمل القطريون، قياساً إلى ما حصل في البلدان التي استضافت كأس العالم وشهدت لعدّة سنوات بَعده موجات سياحية استفادت منها مالياً. لكن بالتأكيد، سيكون للحدث المردود السياسي المطلوب في تعزيز ديبلوماسية المفارقات، بذراعها المالية الطويلة، التي أوْصلتها في المقام الأوّل إلى نيْل «شرف» استضافة المونديال. فدور قطر العالمي سيتعزّز أكثر، وصورتها ستصبح أكثر بريقاً، إلّا أنها ستظلّ طرفاً أيضاً في صراعات كثيرة كانت قد تراجعت حدّتها، في الجوارَين القريب والبعيد، وهذا بيت القصيد.