باولا عطية
بعد التوصل إلى هدنة ووقف لإطلاق النار بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، بدأت المنطقة تلتقط أنفاسها وتعيد ترتيب أولوياتها الاستراتيجية. وفي هذا السياق، تبرز مؤشرات تعاون متجددة في جنوب آسيا، حيث تسعى إيران وباكستان إلى تعزيز شراكتهما الأمنية والاقتصادية لحماية ميناء جوادر الحيوي في إقليم بلوشستان الباكستاني. فهذا الميناء لا يُعد مجرد منشأة بحرية، بل يمثل حجر الزاوية في مشروع الحزام والطريق الصيني، وركيزة استراتيجية للاستثمارات الصينية الكبرى في المنطقة، ما يجعله عنصراً محورياً في توازنات الجغرافيا السياسية وأمن بحر العرب.
أولاً: ميناء جوادر وأهميته في المشروع الصيني
ميناء جوادر هو أحد أهم الموانئ في مبادرة “الحزام والطريق” التي تقودها الصين، ويشكل نقطة النهاية لممر الصين – باكستان الاقتصادي (CPEC)، الذي يربط إقليم شينجيانغ الصيني ببحر العرب.
في هذا الإطار اعتبر الباحث الاقتصادي الدكتور محمد موسى في حديثه لـ”النهار” أنّ “أمن ميناء جوادر يُعدّ بمثابة أمنٍ لمشروع “الحزام والطريق” الصيني بأكمله، بل هو جوهر الرؤية الاستراتيجية للصين في المنطقة. ومن هنا، فإنّ استقرار إيران يشكّل مصلحة استراتيجية مشتركة للصين وباكستان، حتى وإن لم يُعلن ذلك صراحة. فالكل يدرك ضمنيًاً أنّ الصين تُعتبر الطرف غير المعلن في خلفية الصراع الإسرائيلي – الإيراني، وأنّ انهيار إيران سيعني بداية تفكك المشروع الصيني العابر للحدود. وإذا ترافق هذا الانهيار مع زعزعة استقرار باكستان، فستكون هناك فرصة ثمينة لخصوم بكين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل، للانقضاض على المشروع وضربه في مقتل. لذلك، فإن أمن هذا الممر البحري – الذي يربط جوادر ببحر العرب – يُعدّ أمناً وجودياً لبقاء المشروع الصيني، بشكل مباشر أو غير مباشر”.
تكمن أهمية هذا الميناء في كونه:
• يوفر وصولًا مباشراً للصين إلى المياه الدافئة دون المرور بمضيق ملقا الخاضع للرقابة الأميركية.
• يقلل من كلفة وتوقيت نقل الطاقة والبضائع الصينية نحو الشرق الأوسط وأفريقيا.
• يمثل قاعدة بحرية تجارية وجيوسياسية للصين في بحر العرب، على مقربة من مضيق هرمز.
وبالتالي، فإن أمن هذا الميناء يوازي أمن خطوط الإمداد الاستراتيجية للصين وباكستان.
ثانياً: التعاون الإيراني – الباكستاني لحماية جوادر
رغم التوترات السابقة بين إيران وباكستان، يبدو أن التهديدات المشتركة، خاصة من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، دفعت الطرفين إلى إعادة تموضع علاقاتهما الاستراتيجية، خاصة في ظل العمليات الإسرائيلية ضد إيران، والتي قد تمتد إلى مناطق النفوذ الإيراني على الساحل الجنوبي.
هذا التعاون يشمل:
• إجراءات أمنية مشتركة على طول الحدود بين بلوشستان الباكستانية والإيرانية، حيث تنشط جماعات متمردة تهدد كلا البلدين.
• تبادل استخباراتي لحماية المنشآت البحرية من أي هجمات أو اختراقات.
• توافق جيوسياسي موقت حول دعم الاستقرار في بحر العرب، بما يخدم مصالح الطرفين والصين في آن معاً.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ هذا التحالف الصيني – الإيراني – الباكستاني، سواء أكان صريحاً أو ضمنياً، أصبح اليوم في عين العاصفة. فالصين برأي موسى، ستتلقى ضربة قوية في حال استمرار العدوان وتوسعه ليطال أمن الممرات البحرية الحيوية، خصوصاً إذا ما تمّ تهديد المصالح الإيرانية المباشرة على السواحل. وإيران بدورها، يتابع موسى، ستكون محاصرة في حال استُهدفت ممراتها البحرية، ما سيشلّ جزءاً كبيراً من صادراتها ويضعها بين فكي كماشة. أما باكستان، فهي اليوم في موقف لا تُحسد عليه، إذ تجد نفسها بين نارين: إما أن تلتزم بالحياد وهي تعتمد على الدعم الإيراني في حماية مصالحها، أو أن تُغضب الولايات المتحدة، في وقت تشهد فيه الاستثمارات الصينية على أراضيها نمواً غير مسبوق. وبذلك، قد تكون معادلة باكستان هي الأكثر تعقيداً بين الأطراف الثلاثة.
ثالثًا: المخاطر الجيوسياسية على المشروع الصيني
من منظور بكين، فإن هزيمة إيران أو تراجع نفوذها في المنطقة نتيجة تصعيد إسرائيلي-أميركي سيعني انهيار التوازن القائم في بحر العرب، ويهدد بإجهاض مشروع الحزام والطريق في جنوب آسيا. فميناء جوادر سيكون عرضة لخطر:
• الاستهداف المباشر من القوى المعادية لطهران.
• العزلة الاستراتيجية إذا فقدت إيران دورها كشريك حدودي حيوي لباكستان.
• تعثر الاستثمارات الصينية التي تقدر بمليارات الدولارات في البنية التحتية، نتيجة عدم الاستقرار.
كما تخشى الصين أن يؤدي انهيار التعاون الإيراني – الباكستاني إلى فراغ أمني يمكن أن تستغله واشنطن أو نيودلهي، لإضعاف المشروع الصيني في هذه المنطقة الحيوية.
رابعاً: الموقف الباكستاني… بين الحياد والمصلحة
وقوف باكستان إلى جانب إيران في هذه المرحلة لا ينبع من إيديولوجيا، بل من مصلحة اقتصادية وأمنية مباشرة:
• الحفاظ على الاستثمارات الصينية الضخمة في ميناء جوادر وممر CPEC.
• منع تحول بلوشستان إلى ساحة للفوضى في حال انفجار إقليمي.
• تعزيز نفوذها في بحر العرب في مواجهة خصمها التقليدي، الهند.
لكن في المقابل، تواجه إسلام آباد ضغوطاً من دول الخليج والولايات المتحدة للبقاء على الحياد، أو حتى معارضة إيران، ما يضعها في موقف دقيق.
كل هذه المعطيات يقول موسى، تشير إلى أن المنطقة بأسرها ستكون في دائرة المراقبة في المرحلة المقبلة، وأن التطورات المقبلة ستحدّد مسار المعادلات الجيوسياسية. والسؤال الجوهري يبقى: إلى أين ستتجه تداعيات هذه الأزمة؟ وهل نحن في بدايتها أم في خواتيمها؟
ما ستؤول إليه هذه التداعيات سينعكس بطبيعة الحال على إيران، وباكستان، والصين، وعلى المستوى الدولي مع الولايات المتحدة، والإقليمي مع إسرائيل والدول الخليجية والدول المشاطئة لبحر العرب.
إن التعاون الإيراني – الباكستاني لحماية ميناء جوادر ليس مجرد تنسيق عابر، بل تحالف اضطراري فرضته التهديدات الجيوسياسية على أطراف تشترك في المصالح رغم الخلافات. فالميناء هو عصب استراتيجي لمبادرة الحزام والطريق، وخسارته أو زعزعة أمنه ستشكل نكسة كبرى لمشاريع الصين في آسيا وإفريقيا، وستعيد رسم خرائط النفوذ في بحر العرب.
وبالتالي، فإن بقاء إيران قوية ومتماسكة مصلحة غير مباشرة لباكستان والصين، في وجه خصوم يسعون لتفكيك شبكة المصالح الاقتصادية التي تشكلت على امتداد الممرات البحرية والبرية.
أخبار سوريا الوطن١-النهار