| أنس تللو
كانت الصالونات الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين منبعاً غزيراً من منابع الثقافة، ومرتعاً بديعاً من مراتع الحوار المثمر والنقاش البناء ونشر الوعي.
من تلك الصالونات العريقة صالون الأديبة مي زيادة ؛ تلك الأديبة المرهفة الإحساس والزاهية المشاعر.
مكانة الصالون الأدبي
لم يكن صالون الأديبة مي زيادة صالوناً عادياً، فقد تميَّز بأن رواده من أكابر الأدباء والشعراء من أمثال عباس محمود العقاد ومصطفى عبد الرزاق ومصطفى صادق الرافعي وولي الدين يكن… وكانوا جميعاً ينثرون أدبهم الراقي وأشعارهم البديعة في جنبات هذا الصالون، وكانت مي تستمع وتستمتع بشغف إلى لواعج هذه القلوب الحرى، وتستقبل أحاسيس الأنفس، وتطرب لأنغام الأحزان وآهات الآلام، وهي بذلك كأنها كلما تفتح باب الصالون لاستقبال الأعضاء؛ تفتح معه باب قلبها البديع على مصراعيه، لا تصدُّ طارقاً ولا تؤنِّب مختلساً للنظر، فتراها دوماً هائمة حالمة، لذلك فقد غدا قلبها مهبِطاً لمشاعر وأحاسيس كل أعضاء هذا الصالون الأدبي العريق، الذي توافد عليه معظم أدباء وشعراء عصرها ليعتبروه موئلاً لأفكارهم وملجأ لهمومهم العاطفية، يبثون من خلاله لواعج أنفسهم، ويطنبون في وصف مشاعرهم عبر كتاباتهم العاطفية الثرة وأشعارهم الملتهبة.
مي ودورها
ولا شك في أن هذا (التفلُّتَ العاطفي) في طرح المشاعر والإفصاح عن الأحاسيس، سيغدو مع الزمن أشبه بشرك للوقوع في براثن الولع والوله والعشق والغرام.
ولقد كانت الأديبة مي هي الفتنةُ الأولى الأطغى في هذا الصالون الأدبي، وهي الجمال الرائع الأخَّاذ، لذا فقد غدت هي (الطعم الأوحد) في تلك الشبكة العاطفية الواسعة التي كانت تنصبها لجميع أعضاء الصالون من حيث تدري أو لا تدري، ولقد وقع معظم أدباء الصالون فرائسَ في خيوط هذه الشبكة.
كان هذا في أوائل القرن العشرين، فقد ولدت مي زيادة عام 1886 وتوفيت عام 1941، وكانت تفتح أبواب الصالون كل يوم ثلاثاء.
وكان من بين رواد هذا الصالون الأدبي شابٌ أنيقٌ جذابٌ وسيم؛ خفيفُ الظل والروح، حلوُ المعشر، ظريف اللسان، مهذبٌ إلى أبعد حد، يُحسِنُ الحديث، ويجيد الاستماع، أضف إلى ذلك شاعريةً فريدة مبدعة أهَّلته لأن يكون عضواً بارزاً في هذا الصالون الأدبي، هو الشاعر ولي الدين يكن، الذي ولد عام 1873 ـــ وتوفي عام 1921.
ولي الدين وتعلقه
لقد وقع ولي الدين كما غيره في تلك الشبكة، وغدا صديقاً حميماً لمي، يزورها باستمرار وكأنه من أقربائها.
وتوطدت العلاقة بينهما وتأججت المشاعر إلى أبعد حد، وبدأت أشعاره وكلماته التي يقدمها في الصالون تتجه نحوها بشكل مباشر، ولم يكن شعره في مي وصفاً عادياً بل هو ينبع من صميم قلبه، وكانت هي تمحضه الحب، لكنها تعتبر أن هذا النوع من الحب هو نوع من الصداقة العميقة، لأنها قد خبَّأت حبها الحقيقي للشاعر الذي لم تلتقِ به جبران خليل جبران.
كان ولي الدين يكن يشعر بألم لأن قلبها ليس معه، فيقول لها:
كوني كما أنا في الغرامِ وفيةً
لا تهجريني، ما خُلقتُ لأُهجرا
بلغَ المدى بي كلَّ شيءٍ في الهوى
فإذا أردتُ زيادةً لن أقدِرا
وفي قصيدة أخرى؛ يخبرها بأن جسمه قد غدا نحيلاً حتى يكادُ يفنى بها، ويتعجب لـمَ لا تكون هي كذلك:
قد أذابَ البعادُ جسمي حتى
فنيَ الجسمُ ثم أبقى النحولا
عجباً كيف لا تكونين مثلي
عجباً كيف تصبرينَ طويلا
ردت فعل مي
كانت مي تستمع إلى هذه الآهات الموجعة وليس بيدها حيلة، فهي تحس به ؛ وتبادله المشاعر، وحين أصابه مرض الربو، وانقطع عن حضور جلسات الصالون؛ كتب لها رسالة أرسلها مع صديقة أنطون الجميِّل، ولما تلاها لها أنطون أمام الجميع، ووصل إلى قوله: (أنا في بأس شديد من زوال هذا المرض الذي عجز الطب عن دفعه)، انتفضت مي من الألم، وهرعت إلى البكاء أمام أعضاء الصالون.
وهكذا استمرت العلاقة بينهما، ومازال يتابع لقاءاتها في الصالون… حتى صارت مي تعرف جميع أسراره، وتحيط بكل مكنوناتِ نفسه، ثم مرض بمرض الربو فأخذ يراسلها عبر زملائه… ثم تكاثرت عليه الأحزان والهموم، واشتد عليه مرض الربو، فزارته مي بصحبة الشاعر خليل مطران الزيارةَ الوحيدة في حياتها، وظلت تتابع أخباره بحزن وشغف، وتسأل عنه أخاه يوسف يكن إلى أن جاءها يوسف مرة حاملاً ورقة من ولي الدين خُطَّ فيها:
عمرَ الشبابِ، لقد مضيتَ محببا
وتركتَ لي عمراً سواكَ بغيضا
عُوِّدتُ أمراضي وطولَ تألُّمي
حتى كأني قد وُلدتُ مريضا
وفاته
وبعد أسبوع جاء إلى الصالون يوسف ولي الدين حاملاً ورقة أخرى بخط أخيه، تتضمن بيتين من الشعر:
مُت يا وليَ الدينِ مُت
ما ثَمَّ من يبكيكا
ودِّع حياتَك هذهِ
ما ذُقتَهُ يكفيكا
توفي ولي الدين يكن عام 1921، فبكته مي بكاءً مريرا، ولبست من أجله السواد عامين، وكانت كلما ذَكَرهُ أحد أمامها تغرقُ عيناها بالدموع.
حقاً لقد كانت مي زيادة أسطورةً عظمى من أساطير الحب والوله، تخضع لها قلوبُ العشاق، ويحاكيها خيالُ الشعراء.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن