في الأحياء التي كانت تشتعل فيها آلات القص والخياطة صباحاً ومساءً، وتفوح منها رائحة الجلد والعرق والحرفة، أصبح الصمت سيد المكان. ورشات الأحذية في حلب، التي طالما رفدت الاقتصاد المحلي بمنتجات عالية الجودة، باتت اليوم تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام موجة الاستيراد التي لا ترحم.
قرار غير مسؤول
قرار سمح بإدخال الأحذية الجاهزة وأوجه الأحذية الرياضية، قلب الموازين، وفقد آلاف العاملين مصدر رزقهم، وتهددت صناعة حلبية تُعتبر من أقدم وأهم الحرف اليدوية في البلاد. الحرفيون الذين صمتت آلاتهم، لم يصمتوا، رفعوا أصواتهم، ووجّهوا نداءات، لكن يبدو أن من في يدهم القرار مشغولون عن الصيحة الأخيرة لحرفة تتلاشى.
قرارٌ وصفه الحرفيون بـ”الجائر”، سمح باستيراد الأحذية الجاهزة وأوجه الأحذية الرياضية، كان كفيلاً بإغلاق مئات الورشات الحرفية في حلب، فيما تعمل أخرى بطاقة جزئية بالكاد تكفي لتغطية المصاريف.
هذا القرار نتج عنه ضرر مباشر لآلاف من الأيدي العاملة، كما قال لنا عدد من العمال والصناعيين، الذين رأوا بالقرار تهديداً حقيقياً لمهنة يتجاوز عمرها القرن، كانت حتى الأمس القريب تساهم في دعم الاقتصاد المحلي وتصدير المنتج الحلبي إلى الأسواق العربية والعالمية.
وتتزايد المخاوف اليوم من زوال هذه الحرفة بالكامل، في ظل غياب حلول حقيقية، وتنامي البطالة، خصوصاً بين الفئات الشابة التي تعتمد على هذا القطاع كمصدر دخل رئيسي.
في أحياء الصالحين، والفردوس، والشيخ خضر، والهلك، حيث كانت أصوات آلات القص والخياطة لا تهدأ، ساد الصمت، لكن بدلاً منها، ارتفعت أصوات الصناعيين وأصحاب الورش للمطالبة بإنصافهم. عشرات الحرفيين تواصلوا مع صحيفة الثورة لإيصال صوتهم إلى الجهات الحكومية، معبّرين عن رفضهم لإغراق السوق بالأحذية المستوردة، داعين إلى وقف القرار فوراً وإنقاذ ما تبقى من الصناعة الوطنية التي لطالما كانت عنواناً للجودة والتميّز في المنطقة.
الورشات تحتضر
أبو علي، صاحب ورشة في حي الصالحين، يقول: افتتحت ورشتي عام 1980، وكان يعمل فيها أكثر من 20 عاملاً، اليوم لم يتبقَ سوى اثنين، فمنذ دخول الأحذية الجاهزة والأوجه المستوردة من الصين ولبنان، توقّفنا عن الإنتاج الكامل، وصرنا نركب النعل ونبيع، وهذا ليس شغلنا، هذا تجميع، وليس صناعة”، مضيفاً بأنه سيقوم بإغلاق الورشة إن بقي الحال على ما هو عليه.
“حينما أغلقت الورشة التي كنت أعمل فيها أصبحت أنا وزملائي بلا دخل”، تقول ابتسام، وهي عاملة سابقة في ورشة مغلقة بمنطقة المقامات، وتوافقها الرأي زميلتها أم محمد، مطالبة بالعيش بكرامة وتأمين مستلزمات الحياة.
صناعة تنهار بالأرقام
فريق “الثورة” زار مكتب الجمعية الحرفية لصناعة الأحذية في حلب، وأكد من خلاله رئيس الجمعية حسن كناس أن القرار الحكومي سمح بإدخال الأحذية والأوجه الجاهزة التي تشكّل ما نسبته 70 بالمئة من مكونات الحذاء، ما أدى إلى تراجع واضح في نسبة التصنيع المحلي، مشيراً إلى أن أكثر من 700 ورشة أغلقت خلال عام واحد فقط، ما أدى إلى فقدان آلاف فرص العمل، غالبيتها من الشباب والنساء.
وشدد كناس على أن أكثر من 3000 ورشة قائمة ومئات المعامل في حلب قادرة على التصنيع الكامل لو توفرت بيئة إنتاج حقيقية.
وتابع: رغم عشرات المذكرات والكتب التي رفعها الحرفيون إلى الجهات المعنية، لم تصدر أي استجابة رسمية حاسمة، بل اكتفت حكومة النظام البائد بتصريحات باهتة تفيد بأن الاستيراد جاء “لتلبية حاجة السوق”، واليوم، يُقال إن القرار قيد المراجعة.
يرى صناعيون محليون أن السوق المحلي قادر وبجدارة على تغطية حاجة السوق إذا تم تقديم تسهيلات خاصة بالصناعة ومنع إغراق الأسواق بالبضائع المستوردة.
وقف الاستيراد هو الحل
عدد من الصناعيين الذين التقتهم صحيفة الثورة أكدوا أن الحلول ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية، وأبرز المقترحات الممكنة هي وقف استيراد الأوجه الجاهزة بالكامل، أو تقييده بشروط صارمة، وفرض رسوم جمركية تصاعدية على المستوردات لحماية المنتج المحلي، وكذلك دعم الصناعات التكميلية (كالنعل والغراء والقماش المحلي)، إضافة إلى إعادة تأهيل المناطق الصناعية ” كهرباء، ماء، طرق، تراخيص”، إلى جانب تقديم قروض تشغيلية بفوائد منخفضة لتجديد الورش وتوسيع خطوط الإنتاج.
وتعتبر صناعة الأحذية في حلب إرثاً عريقاً وشرياناً اقتصادياً لآلاف العائلات، لا يجوز تركها تنهار بهذا الشكل، تحت وطأة قرارات عشوائية واستيراد غير مبرر، لأن في ذلك خسارة للهوية وللاقتصاد المحلي.