| نزار نمر
أكثر من 400 صحيفة ومجلّة تقدّم حالياً في المتحف الذي يحمل اسم إله الكتابة والحكمة في بلاد ما بين النهرين. المعرض جاء ثمرة عملية بحث وتوثيق طويلة النفس أجراها المؤرخ بدر الحاج، راصداً بدايات وتطوّر السلطة الرابعة في العالم العربي طوال قرن كامل من تاريخ المنطقة
تصل إلى بلدة الهري في قضاء البترون (شمالاً)، فيلفتك على مقربة من رأس الشَقعة مبنى مكعّب يشبه علبة كبيرة. إلى جانبه، ما تبقّى من سكّة الحديد عليها عربة قطار أثرية. أمامه، حديقة ورصيف بحري خشبي منه يمكن رؤية المنظر الخلّاب 360 درجة. لكن قبل أن تطأ قدمك الرصيف، تلفت انتباهَك على طرف الدرب المؤدّي إليه منحوتات لوجوه روّاد الصحافة العربية أمثال بطرس البستاني، وخليل سعادة، وأحمد فارس الشدياق وعبد الرحمن الكواكبي. تدخل أروقة المبنى ذا الواجهة الزجاجية الضخمة، فتلفتك على جدرانه صور فوتوغرافية، قبل أن تتعمّق أكثر فتستقبلك جداريّات عبارة عن نسخ من صحف ومجلّات عربية أحدثها يعود إلى عام 1955. تصعد إلى الطابق الأعلى، فتعثر على المزيد منها، بالإضافة إلى نسخ أصلية تختبئ وراء عازل زجاجيّ ممنوع عليك لمسه.
إنّك في «متحف نابو»، تشاهد معرض «بدايات الصحافة العربية» الذي يضمّ أكثر من 400 صحيفة ومجلّة تُعرض في الصرح الذي يحمل اسم إله الكتابة والحكمة في بلاد ما بين النهرين، جمعها الكاتب والباحث والمؤرّخ اللبناني بدر الحاج على مدى أكثر من 50 سنة.
بطبيعة الحال، الحصّة الأكبر للصحافة اللبنانية، بدءاً بأوّل صحيفة صدرت من بيروت عام 1858 وهي «حديقة الأخبار» لمؤسّسها خليل الخوري، وأوّل مجلّة عربية لبنانية صدرت عام 1892 من مصر، وهي «الفتاة» لموسِّستها هند نوفل. لكنّ المعروضات من الدول العربية كافّة، بالإضافة إلى بعض ممّا خرج من المهجر، كصحيفة «الأرجنتين» ومجلّة «المجلّة» اللتَين صدرتا في الأرجنتين أوائل القرن العشرين، أو صحيفة «المستقبل» التي أصدرتها الحكومة الفرنسية (باللغة العربية) خلال الحرب العالمية الأولى، وغيرها ممّا صدر من القارّات كافّة. وهناك وجود لافت للصحف الفلسطينية، فخُصّصت بزاوية، كما لصحف سورية ومصرية وتونسية وجزائرية وأردنية.
المعرض هو الأوّل من نوعه في العالم العربي كما يقول القائمون عليه، يأتي بعد إعلان بيروت عاصمة الإعلام العربي لعام 2023، ويضمّ صحفاً ساخرة حتى في أسمائها، وأخرى علمية وطبّية ورياضية، وهو ما بتنا نفتقده اليوم كما يلفت أحد مؤسّسي «نابو» جواد عدرا. وسبق للأخير أن أشار في الافتتاح إلى أنّ الحدث يحمل معلومات عن الناشرين وعن خلفيّاتهم السياسية وأساليبهم، كما يتناول مطبعة «اليسوعية» حيث تمّ طبع معظم الصحف.
وفي حديث معنا، يلفت بدر الحاج إلى أنّ عمليّة جمع المطبوعات «كانت عسيرة»، إذ شملت البحث عن إصدارات تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، في أصقاع أوروبا حتى أطراف الصين. يقول الحاج إنّه اشترى قبل قرابة تسع سنوات مجموعة كبيرة من «صحافي تونسي كان يبادل صحيفته التي يصدرها في تونس بالصحف التي تصدر في نيويورك أو باريس أو ساو باولو أو الأرجنتين، فتجمّعت لديه كمّية كبيرة. رأيتها طريفة من حيث العناوين والترويسات، فكثّفت جهودي لجمع المزيد منها، فأعطاني بعض الأصدقاء صحفاً ومجلّات حتى باتت الكمّية ضخمة، وعلى ضوء ذلك ارتأيت أنّ الفكرة الفضلى هي إنجاز معرض، وخصوصاً أنّ أحداً لم يقدم على هذه الخطوة في المنطقة العربية سابقاً».
في معرض كلامه، يذكّر الحاج بمعرضه السابق «بيروت 1840 ــ 1918 صور وخرائط»، في إطار تأكيده أنّه على الرغم من أنّ طابع المعرضين توثيقي، إلّا أنّ الحالي يعتمد على المعلومات التي تكون «إمّا عبر الكتب أو الصحف»، والأخيرة بعكس الأولى «تكون يومية أو أسبوعية، فتسجّل معلومات كثيفة عن المدن حيث تصدر والأحداث فيها وتطوّرها مع الوقت، لذا فالصحف تُعدّ مصادر أساسية لكتابة تاريخ البلد والمنطقة. مثلاً، كان في بيروت ما يفوق 55 فندقاً وخاناً، نسمع ربّما عن أربعة منها فقط، فماذا عن البقيّة؟ هذه أمور نكتشفها من الصحف». يرى الحاج كذلك أنّ الصحيفة في تلك الحقبة لم تنقل أخبار أيّ مدينة بالدقة التي نقلت فيها أخبار المدينة التي صدرت منها.
ويؤكّد كذلك أنّ «هدف المعرض ليس فقط استعراض الصحف الصادرة في المدن، بل يتضمّن أيضاً مصادر أساسية لكتابة تاريخ المنطقة، وفيها معلومات تاريخية واجتماعية وفكرية، إذ كانت هناك اتّجاهات فكرية وسياسية مختلفة سائدة. كلّ هذه المعلومات وأحداث المناطق والأحداث السياسية والصراعات وغيرها مسجّلة في هذه الصحف، لذا يجب أن تكون المحافظة عليها أولوية، ولا سيّما لناحية حفظها إلكترونيّاً، ما يسهّل عمليّات البحث على الباحثين والمؤرّخين حول العالم. فالاتّكال على عدد محصور من الكتب من أجل المعلومات ليس فعّالاً، نظراً إلى أنّ الكتب قد تكون لديها وجهة نظر محدّدة، بينما اعتماد مجمل الصحف والمجلّات التي تحتوي آراء مختلفة يعطي فكرة أدقّ عن الأحداث».
الحصّة الأكبر للصحافة اللبنانية، بدءاً بـ «حديقة الأخبار» أوّل صحيفة صدرت في بيروت عام 1858
ولدى سؤالنا له عن الصحف المفقودة، يجيب الحاج بأنّه في كلّ الأحوال «يجب اتّخاذ الخطوة الأولى من الألف ميل، عبر رصد أماكن تواجدها عند أصحابها أو المكتبات الوطنية وغيرها، والعمل الحثيث على نقلها إلكترونيّاً». ويشير إلى أنّ «هناك صحفاً غير موجودة لا إلكترونيّاً ولا في المخازن. مثلاً، حاولت في الخارج الحصول على عدد واحد من جريدة بطرس البستاني «نفير سوريا» لكن عبثاً، إذ قد تجد مقالات منها هنا وهناك لكن لا نسخة ملموسة منها. هناك صحف كثيرة مفقودة، لكنّ المطلوب الحفاظ على ما تبقّى، وهدف المعرض لفت الانتباه إلى الموضوع. هناك صحف ومخطوطات تتسرّب إلى الخارج، وخصوصاً في ظلّ الأزمة في البلد حيث يتمّ بيعها بسبب الحاجة إلى المال. لا مشكلة في ذلك، لكن على الأقلّ يجب نسخها إلكترونيّاً للحفاظ على التراث».
أمّا عن الاهتمام الرسمي بأرشيف الصحف، فيؤكّد الحاج عدم وجوده «لا سابقاً ولا حالياً وغالباً ما يتمّ تمويه الأمر تحت حجج غياب التمويل». مع ذلك، «لا حاجة لميزانية كبيرة، فيكفي التصوير عبر كاميرا أو آلة نسخ أو غيرها». لكنّه يشير إلى أنّه قام بمهمّته، والأولوية بالنسبة إليه هي للباحثين والكتّاب والمؤرّخين والمفكّرين. هو ماضٍ في عملية جمع الصحف والمجلّات القديمة وشرائها، و«المعرض خلق نوعاً من «التنبيه» وبالفعل تواصل معي عدد من الأشخاص لديهم صحف قديمة». هكذا إذاً، يستمرّ معرض «بدايات الصحافة العربية» لغاية 16 أيلول 2023، فيكون أمام المهتمّين متّسع من الوقت لزيارة هذا الموقع المميّز واغتنام فرصة إلقاء نظرة على مطبوعات عمرها أكثر من قرن. هي فرصة نادرة للتعرّف إلى تاريخ صحافة لبنان والمنطقة العربية والمهجر ومدنها، والمراحل التي مرّت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.