نادية عصام حرحش
اثار مقال للكاتب الكردي سليم بركات أكثر من زوبعة في فنجان، عندما تناول في عبارة بدت عابرة في مقاله عن حديث دار بينه وبين الشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش عن الابوّة. سليم بركات كان يتكلم عن هواجسه كأب مستقبلي تنتظر زوجته مولودهما الأول، ومحمود درويش تكلم عن أبوّة لابنة لا يعرفها، كانت ثمرة علاقة مع امرأة متزوجة.
انتهت العبارة وبدأت العبارات العابرة لتوجّسات حملها الخوف والرعب من قبل محبّي ايقونة الشعر الفلسطيني محمود درويش بمعرفة انّه كان مجرد رجل خطّاء. ليس من شأني أن أحاكم محمود درويش على علاقاته، ولكن ليس من الغريب أبداً أن يكون محمود درويش قد عاش حياته بعلاقات عابرة وغيرها مع الكثيرات. فمحمود درويش لم يعش حياته بساعات أيّامه المتعددة جالساً فقط وراء مكتبه يكتب لنا الشعر بما طاب لنا سماعه، ويقضي يومه كناسك. كان رجلا له حياته التي لا نعرف عنها الكثير.
حياته طبعا كانت شأنه وليست شأننا. ولكن محمود درويش تحوّل الى شأن عام أقرب الى الايقونة المتفرّدة، ولو كنّا في زمن آخر بمكان آخر لمنحْناه صفة القدسيّة.
في هذه الأيام أقرأ لجان جاك روسو، ولا يسعني الا التفكير بحياته الخاصّة. في معرض رد لكاتبة معاصرة له (القرن الثامن عشر)، لا تقل أهمّية ربما، تدعى ماري وولستونكرافت على أعماله وتحديداً عن نظرته للمرأة، فكّرت كيف كانت تصاغ العلاقات بين المفكّرين وتتشكّل. اجتاح ذاكرتي للحظات كذلك الكاتب الأمريكي هنري ميلر وعلاقته بالكاتبة الفرنسية انيس نين في بدايات القرن العشرين.. أجريت مقاربة سريعة برأسي بين الحالتين، وقلت في نفسي، كيف انّ المثالين قدّما للبشرية أعمالاً خالدة، أحدهما كان يحاول ان يعيش حياة الرهبان بلا عباءة الرهبنة، والآخر كان ماجناً يقتنص الفرص للحياة. بالحالتين كانت الاعترافات مدوّية وعظيمة بنفس القدر. مدوّية بجرأتها، وعظيمة بقدرة أصحابها على الاعتراف. اعترافات جان جاك روسو بأنّه أنجب خمسة من الأبناء تركهما في بيوت لقطاء، ومع هذا لم يتردد بكتابة اهم كتب التربية. واعترافات هنري ميلر بتشعّب علاقاته ومجون حياته الخاصّة، ولكنّه تمنّى دائماً الإخلاص. ولكن مهما حاولنا النفور ونفرنا من حياة خاصة لهكذا شخصيات، لا يمكن الّا أن نقدّر أعمالهم التي تُعتبر خالدة بأحقّيّة.
فلا ترْك روسو لأبنائه بالملاجئ قلّل من قدْر فكْره الذي نتعلّمه ونُعلّمه حتى اليوم، ولا حياة هنري ميلر على الحافّة جعلت من كتبه اقلّ قيمة واتّزاناً. وبالحالتين كلاهما أيقونات في بلادهما وفي عالم الفكر والأدب والفلسفة.
فهل يختلف الحال مع محمود درويش؟ هل يُنقص من قيمته وجود ابنة لا يعرفها ولا تعرفه؟
هل محمود الإنسان هو شأننا الخاص كمعجبين؟
لا داعي لطرح جواب مباشر، لأنه ربما لا توجد إجابة واحدة هنا. فلكلّ رؤيته وما يفكّر به كصحيح. بالمحصّلة، لفد تحوّل محمود درويش الى أيقونة ممنوع الاقتراب منها وخدشها. فمحمود درويش لم يعش كإنسان عاديّ، ولم يمت كذلك كعاديّ بالنسبة للكثيرين.
هل يحق لسليم بركات أن يقول ما قاله من بوح لسرّ رجل مات؟
هل كان الأمر سرّاً؟
بالحديث المتصوّر الذي دار بين الرّجليْن، كان بوْح درويش أقرب لأن يكون معلومة عابرة. لم يبد انّه ائتمنه على سرّ، وإن كان كذلك، فهل على السر أن يموت بموت صاحبه الأيقونة؟
منذ أن رحل محمود درويش ونحن نشهد ربّما يومياً، روايات وقصص وصور وأحاديث عن أناس كانوا بعلاقة مع محمود درويش. هناك جيش من الشعراء والكتّاب والمفكّرين يحاولون ربط اسم درويش بهم ولو في جملة. فهل أراد الكاتب سليم بركات شهرة أكثر؟
لست هنا كذلك بصدد الحكم، ولكن لا يبدو سليم بركات انه بحاجة الى ذلك.
فهل ما قام به خطأ وفضيحة؟
مشكلتنا أنّنا نقدّس البشر لدرجة التأليه، ثم ندّعي أنّنا لسنا بوثنيّين.
محمود درويش كان انساناً، ارتكب الأخطاء ووقع بالخطايا بلا شك. علاقاته الخاصّة تحوّلت في معظمها الى شأن عام.
هل كان على سليم بركات ان يكتب ما كتبه في حياة محمود درويش؟
هل كان على محمود درويش الاعتراف بفعله؟
بالمنطق، هل من الممكن ان يخرج محمود درويش وهو على قيد الحياة ليعترف لنا بأنّ له ابنة من امرأة متزوجة؟ هل كنا سنرحمه ونرحم المرأة والابنة؟ هل كنا نتوقع ان يذهب محمود درويش الى الرجل زوج المرأة ويعترف له بفعله ويأخذ ابنته مثلاً؟
العلاقات الإنسانيّة أمر شائك ومعقّد. والبشر مع الأسف ليسوا آلهة ولا قدّيسين.
قد لا يوافقني الكثيرون ولكن رأيت في مقال سليم بركات في معرض الحديث عن محمود درويش في هذه الجزئية أمراً عادياًّ، من رجل كان على علاقة طيّبة وقريبة من درويش.
المرأة وابنتها ليستا معرفتان. وهذا ما أبقاه محمود درويش لنفسه ولم يبح به. ربما.
أتساءل عن أخلاقيّة الفعل نفسه، ونتيجته – بوجود ابنة أو ابن- وردّة فعل المجتمع تجاه هذا الأمر. قبل وقت قصير، مرّت امامي قصة مشابهة لرجل ايقونيّ في التاريخ الفلسطينيّ، استشهد في بيروت. لهذا الرجل ابنة، على الرغم من انه لم يتزوج في حياته. سألت نفسي كيف يتعامل المجتمع كذلك بازدواجية بالمعايير في هذه الأمور. فلو كانت هذه الابنة من سيدة عربية فلسطينية مسلمة، هل كان لهذه الابنة فرصة في الظهور وإعلان نفسها؟
وهنا في حال قصّة محمود درويش. لو كانت الابنة هذه من علاقة مع امرأة لم تكن متزوّجة، هل كانت هذه الابنة ستظهر على الملأ؟
نرى هذه القصص كثيراً في دول أخرى، الكثير من المشاهير الذين ظهر لهم أبناء، تستحضرني بهذه الاثناء بالوما بيكاسو، ابنة بيكاسو من علاقة قد يكون نسيها. ولكن حقها بكونها ابنته ظهر ومهما اختلفنا فهو حقّها ولقد اخذته.
في مجتمعاتنا لا يحاسَب الرجل على فعله، ويُترك وزْر الفعل على المرأة. ولكن هنا، نجد مثالا ًآخر لهكذا قصص تكون بها المرأة متزوّجة. لنتنبّه ربّما، أنّ العلاقات تقوم على شخصين. وفعل الخيانة يقوم به شخصين. فمهما مقتنا التصرف وأشرنا الى المرأة بالخيانة، فهناك رجل خائن في المعادلة، والعكس صحيح.
قد تكون هذه المرأة كما محمود درويش دفعت ثمن الخيانة لرجل آخر لا يعرف- أو ربّما يعرف- فهنا نقف أمام عبارة حقيقية جدا: “البيوت اسرار”. ولكن تبقى الجريمة في حقّ الابنة، التي تربّت وكبرت ولم تأخذ حقّها بكونها ابنة محمود درويش. وطبعاً، هناك رجل مخدوع ربّى ابنة رجل ربما قدّره وأحبّه ورافقه وأدخله بيته تكراراً في تفاخر…
موضوع إنساني بجدارة، متكرر، ويعيد نفسه في قصص جديدة في كلّ مرّة. ضحاياه الأكثر حظاً هم أولئك الذي تعثّر بهم الحظّ ولم يعرفوا أنّهم أبناء هؤلاء.
(سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 10/6/2020)