إن من يطأ حقول الأدب العربي الوافرة، ويتبحر في علوم هذا الأدب، وفنونه، وأصوله لا بد له أن يقع في يوم ما على مصطلح شغل الكثير من منظّري ونقّاد العربية، ووُضعت فيه الكثير من الأبحاث والدراسات والكتب؛ ألا وهو مصطلح (السرقات الأدبية).
بداية تُعرّفُ معاجم اللغة لفظة السرقة على أنها”أخذ الشيء خِفية”، وإن أضفنا إلى هذه اللفظة لفظةً أخرى وهي “الأدبية” تولّد لدينا مصطلح نقدي هام، بحث ومنذ القدم في نتاجات الشعراء والأدباء بغية معرفة الأصيل من المنحول.. وقد قُسّمت السرقات الأدبية منذ نشوء هذا المصطلح إلى خمسة أنواع هي (النسخ – السلخ – المسخ – أخذ المعنى مع الزيادة عليه – عكس المعنى إلى ضده)، واستمرت هذه الظاهرة في التكاثر والنمو والانتشار مع تقدم الأيام، وانفراج رقعة النشر، وكثرة لصوص الأدب، واستسهال عمليتيّ النسخ واللصق.
الشهرة المجانية
فالشبكة العنكبوتية باتت، اليوم، ميداناً رحباً يسرح فيه سُلّاب الأدب وسُرّاقه، ومدّعو الثقافة وزاعموها، وعشاق الشهرة المجانية وراغبوها على هواهم، وغدت هذه الشبكة، على الرغم مما قدمته من خدمات للأدباء والمثقفين الحقيقيين، في عرض وإيصال نتاجاتهم إلى أكبر شريحة من المهتمين، وسهولة وإنبساط تداول هذه النتاجات، غدت الأم الرؤوم، والراعي الرسمي للسرقات الأدبية، سواء ما اختصّ منها بالشعر، أو القصة القصيرة، أو الومضة، أو ما امتدّ إلى مجالات شتى كالفن التشكيلي، والموسيقا، والصحافة… وإن تساءلنا عن أسباب ذلك وجدنا أن أبرزها قد يكون كثرة المواقع الإلكترونية التي تتيح عملية النشر دون وجود “بروتوكلات” حماية فكرية خاصة بها، وفاعلة، كموقع الفيسبوك مثلاً، الذي تنشط فيه عمليتا النسخ واللصق بكثرة، حتى غدا معظم روّاده، بشكل أو آخر، أدباءً أو شعراءً أو صحفيين!!. أو ربما يكون عدم اكتراث مواقع أخرى بالضوابط الأخلاقية والقانونية المتعارف عليها، والتي سُنّت منذ أن بدأت عمليات النشر الورقي، أو ربما هي حاجة مواقع أخرى إلى أخبار تغذي بها مضمونها على مدار أربع وعشرين ساعة لزيادة عدد زائريها، ورفع تعدادهم، دون رغبة حقيقية من هذه المواقع في استخدام من هم أهلٌ لهذه المهمة، ودون اكتراث منها في ضرورة وأهمية ذكر اسم صاحب المُنتج الإبداعي، أو الجهة التي قامت بنشره.. وللتبحر أكثر في أسباب انتشار هذه الظاهرة، والإضاءة على مباعث شيوعها، والوسائل الكفيلة بضبطها، توجهت “تشرين” إلى عدد من الكتّاب والأدباء لمعرفة آرائهم في هذا الموضوع:
تناص أم تلاص؟
لا يستطيع أحدنا الإنكار أن تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وثورة الحداثة الرقمية التي شهدها القرن الواحد والعشرون كان لها دور كبير في تكريس الأدب عموماً، وتوسيع رقعة الفئات المُستهدفة بهذا الأدب عن طريق إتاحة الكثير من المعلومات الثقافية، والدواوين الشعرية والكتب بصيغها الإلكترونية. بيد أن هذا التمدد الإلكتروني الواسع، وفيض تهافت المعلومات والأخبار – بحيث أضحى كل من يمتلك شاشة حاسوب، ولوحة مفاتيح، وولوجاً سهلاً إلى الإنترنت، قادراً على أن ينسب لنفسه، ويُلصق باسمه أي منتج ثقافي يشاء – أسهم، بشكل أو آخر، في وجود اضطراب معلوماتي، ورؤى ضبابية سمحت، أحياناً، في حضور ولمعان اسم سارق المُنتج الإبداعي عوضاً عن صاحبه.. وفي هذا يرى الدكتور محمد الحوراني رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب أنه وقبل الحديث في موضوعة السرقات الأدبية، ينبغي بدايةً، النظر إلى المشهد الثقافي عموماً، والسؤال إذا ما كان هذا المشهد بخير، أم أن ثمة أوبئة عصفت به، وجعلت بعض مفاصله رخوة، وربما معتلة القلب؟. ويضيف: “مما لا شك فيه أن المشهد الثقافي بات يعاني الكثير من الأوبئة والأسقام، ولعل ظاهرة السرقات الأدبية والإبداعية هي الظاهرة الأسوأ في هذا المشهد، فعلى الرغم من قدمها، ووجودها تاريخياً، إلا أنها أخذت أشكالاً جديدة، وغدت أكثر فجاجة وقبحاً في زمن الميديا والحداثة والتقدم “التكنولوجي”. ويعلل الحوراني أسباب شيوع هذه الظاهرة، وكثرة مريّديها إلى استسهال البعض السرقة الأدبية، ورغبتهم الظهور على حساب الآخرين، إضافة إلى عدم وجود قوانين صارمة تُجرّم السرقات الإبداعية وتحاسب فاعليها، إلى جانب إهمال بعض من تُسرق نصوصهم أو أعمالهم الحادثة، وهو ما يشجع السارق على الاستمرار فيها مستقبلا.
ويلتقي الأديب ورئيس القسم الثقافي في صحيفة “تشرين” علي الراعي مع د. الحوراني لجهة أن ظاهرة السرقة الأدبية هي ظاهرة قديمة قدم الإبداع نفسه. ويعرج في سياق حديثه إلى أن هناك من يرى أن (النص) الوحيد الناجي من هذه التهمة؛ كان النص الأول، ذلك النص الذي اختلف عليه مؤرخو التدوين بين أن يكون ملحمة جلجامش، أو نصاً يُنسب إلى النبي أيوب. مضيفاً أن: “الإشكالية باتت تقعرالآن في (التلاص وليس في التناص)؛ بمعنى يحق اليوم للمبدع استثمار النص القديم، وبصياغات كثيرة، تبدأ من إعادة التدوير إلى التنصيص والتضمين، وصولاً إلى المناكفة والمُعارضة، وحتى البناء عليه وإتمامه… كل ذلك شرّعها بعضُ النقاد. لكن ما يستنكره النقاد هو قيام البعض بالاستيلاء الكامل على جهد الآخرين، بحيث قد تصل عمليات السطو أحياناً إلى تغيير الاسم فقط، أي نسب جهد الآخر لنفسه في وضح البياض، أو وضح الأزرق بعد أن أمسى (النت) هو الحامل الأساسي للنص في ثمانين بالمئة منه”.. ويعقّب الراعي على ما يموج به المشهد الثقافي اليوم – الإلكتروني منه تحديداً -، ويعتمل دواخله، ويدور في أفلاكه من ظواهر السرقات الأدبية، ونقل النصوص والأخبار، مع الإغفال المتعمد أحياناُ، اسم صاحب المنتج، أو الجهة الناشرة: “بأن هذا الفضاء الإلكتروني بالتحديد هو ما سهّل عمليات السطو لدرجة مُخيفة حيث غدت فيه، (كل الحقوق غير محفوظة للمؤلف)؛ تلك العبارة التحذيرية التي كانت دار النشر تُدونها على الصفحة الأولى من الكتاب مُحذرةً من الاجتزاء، أو أخذ فقرات، أو السطو تحت طائلة المُقاضاة والمسؤولية.. غير أنّ كل التحذيرات السابقة التي كانت بما يُشبه الإنذار المُسبق في الكتاب الورقي، تمّ ضربها عرض جدار الفيسبوك والمواقع الإلكترونية في مشارق النت ومغاربه، حتى غاب تماماً، ولكثرة ما يتكاثر السارق عن السارق، اسم المؤلف الأصلي، وكأنه لم يكن. ولعلّ تلك الحالة تزيد وتستفحل أكثر مع النصوص الوجيزة، حيث يبدو السطو على أسهله، فإما أن يسطو السارق على كامل النص، أو ربما يُبدل فيه كلمة أو كلمتين، أو قد ينقلهما من مكانهما من سطرٍ إلى آخر..”.
بدوره يؤكد الشاعر والمحامي منذر حسن أن موضوع السرقات الأدبية؛ هو موضوع واسع وشائك، ويستحق دراسات متأنية، من باب معالجته، لا رصده فقط. فمن أسباب السرقات المقصودة – بحسب رأي حسن – تلك التي يسطو فيها مبدع على آخر، هو تردّي الحالة الثقافية، المترافق مع غياب دور المؤسّسات، وغيابِ الأقلام المبدعةِ أو تغييبها، في ظلّ بيئةٍ فكرية واجتماعيّةٍ، قائمةٍ على النّقل والتّقليد، ويزدادُ الأمر سوءاً، إذا ما تمت مقاربة الحالة التي يعيشها المواطنُ، والتي جعلتهُ ضحيّةً للجانب الأسوأ في وسائل التّواصل الاجتماعي.
حلول ناجعة
قد تكثر الأمراض الاجتماعية، أو الأوبئة الفكرية، أو الأسقام الثقافية التي قد تغزو منحى ما أو أكثر من مناحي الحياة عامة. بيد أن قراءة متأنية للوقائع، وتحليل المعطيات الواردة بدقة، مع عدم إغفال مؤشرات التطورات التكنولوجية التي امتدت أذرعها إلى مختلف ميادين البحث والعلم والأدب، قد تساعد على ابتداع ضوابط وحلول فاعلة، والخروج بقوانين صارمة تحدّ من هذا الخلل أو ذاك، كما يؤمل مع السرقات الأدبية– الإلكترونية منها تحديداً – التي غذّتها وساهمت في توسيع رقعة تمددها القفزات المعلوماتية والحداثوية واسعة الطيف.. وفي هذا يرى الحوراني أن من ضمن الحلول المقترحة لتطويق ظاهرة السرقات الأدبية، والحد من انتشارها – لأن إنهاءها، بحسب اعتقاده، أمر أقرب إلى الاستحالة لكثرة التعقيدات – هو: “تشديد الرقابة الحكومية وفرض قوانين عقابية صارمة على كل من تثبت بحقه السرقة الإبداعية بالدليل القاطع، وتشكيل لجان متابعة أدبية ثقافية فكرية معرفية، لمتابعة ما يكتب هنا وهناك ومعرفة نسبته إلى صاحبه. إضافة إلى حرمان كل من تثبت سرقته من النشر في الصحف والدوريات والمواقع، وحرمانه من دخول المؤسسات الثقافية، وتشكيل لجان متخصصة بنشر النصوص المسروقة على مواقع التواصل الاجتماعي المتابعة بشكل جيد، على أن يتم وضع النص الحقيقي، والنص المسروق، واسم صاحب كل نص مع تاريخ نشره”.
بدوره يعمد الراعي، لجهة ضبط هذه الفوضى من السطو، إلى التنويه بضرورة التشدد في العقوبات القضائية والقانونية، وإن كان– بحسب رأي الراعي – من الصعوبة إثبات الحقوق في هذا الفضاء، لكن ربما قد يُشكّل ذلك رادعاً، ريثما تتفتق العبقريات الإلكترونية على إيجاد طريقة ما تكنولوجية على وجه التحديد، تمنع خلالها كل عمليات النسخ واللصق، التي أصبحت اليوم لا طائل لها ولا رادع..
من جانبه لا يعوّل منذر حسن كثيراً على مراقبة وسائل التّواصل الحديثة، لأنّه يرى أن هذه الوسائل باتت اليوم ظاهرة موضوعيّة حياتيّة، وإعلاماً نعيش بينَ ظهرانيه، لذلك لا يمكن استخدام هذه الرقابة أسلوباً نحدّ عبره من شيوع ظاهرة السرقات الأدبية. بل إنه يعدّ أن الحل الأمثل لمكافحة هذه الظاهرة هو في قيام نهضة ثقافية تأتي مع حريّة الإبداع، كتابةٌ ونشراً، وهذا– برأيه – يرتبط بالإعلام، وبالمؤسّسات القائمة على الثقافة والفن، التي يجب أن تكون حاضرةً، ومتاحةً، لا كمنبرٍ فقط، بل كحياةٍ نابضةٍ، بعيداً عن أشكال الرقابة التقليدية. إضافة إلى تحديث تشريعات حماية الملكية الفكرية، ودفعها إلى أن تكون أكثر فاعلية في سبيل ابتكار حلول ناجعة لمشاكلنا الثقافية ومن ضمنها السرقات الأدبية.
وفي الختام يمكن القول إن السرقات الأدبية، وخاصة مع النهوض الصارخ لعوالم الميديا الحديثة، وكثرة انتشار المواقع الإلكترونية على اختلاف ألوانها، وصنوف أدائها، وتنوع مضامينها، وزيادة تعداد متصفحي الإنترنت بشكلٍ متعاظم كل يوم، إضافة إلى تكاثر عشاق الشهرة المجانية، وهواة الظهور السريع، وركّاب فقاعات المجد الزائف، كل هذه الأمور وسواها ساهم في بروز هذه الظاهرة، وتثبيت أوتادها، وتضخم معتلي أسنامها؛ الأمر الذي بات لزاماً معه ابتداع وسائل كفيلة، وضوابط فاعلة تُساهم بكشف أصحابها، والحد من انتشارها، ولو بشكل محدود نسبياً.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)