نجيب مجذوب
ليس في معاجم لغات البشر جمعاء مفردات تكفي لوصف التراجيديا السورية المعاصرة، كما أن الصور الواردة من هناك والتي تقصفنا بها الفضائيات لأزيد من عقد غير كافية لتلخيص المشهد الدموي وفهم ما جرى وما يجري على أرض الشام. لكن بعضا من تلك الصور قد يختزل أحيانا جانبا صغيرا من مأساة وطن كبير قال عنه يوما أحمد شوقي: «وَعِزُّ الشَّرْق أوّلُه دمشق».
في الصورة المرفقة نصب تذكاري لأبي العلاء المعري (973م-1057م) شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، بعد أن حُزَّ رأسه يوم 12 فبراير/شباط من العام 2013 على يد البرابرة الجدد الذين يُعرَفون إعلاميا بــ«جبهة النصرة»، وذلك في مسقط رأسه ببلدة معرَّة النعمان بمحافظة إدلب السورية. وتُشاهد عليه آثار طلقات الرصاص. فالنصب التذكاري وفق عُرفهم التكفيري الأرعن مجرد صنم لشاعر زنديق، لهذا لم يتوانوا في قطع رأسه باسم الثورة والدين، واعجباه! وقد جرى نحت التمثال عام 1944 بيدي الفنان النحات فتحي محمد قباوة ابن مدينة حلب الشهباء تكريما لذكرى رهين المحبَسين. وحازت منحوتته على جائزة المَجْمَع العلمي في دمشق، كما نالت إعجاب أديب أعمى اسمه طه حسين.
إن المشهد الحزين الصامت لتمثال المعري في ركن منزو، مقطوع الرأس، مكتوف اليدين، وآثار طلقات الرصاص الآثم قد اخترقت العباءة التي ألبسه إياها النحات، يُظهر مدى تغلغل الحقد والهمجية في قلب من قطعه، وتمكُّن الجهل منه. لكن هيهات هيهات لتحطيم حَجر أن يقتل فكرا، ولقطع رأس تمثال أن ينسينا شاعرا، ولإعدامه معنويا أن يطرده من ذاكرتنا ويُخرجه من التاريخ. سوف يعيش شاعر المعرة لقرون أخرى لا محالة، وسيذهب من أمر بقطع رأس تمثاله إلى مزبلة التاريخ حتما. فمن انهمكوا في حز وجز رأس تمثال شاعر ضرير قَضى قبل عشرة قرون من رابع المستحيلات أن يعيدوا بناء وطن يُعد بحق منارة الشرق، حتى وإن استمرت جميع الفضائيات في العالم بالتطبيل والتزمير لهم وتسميتهم «ثوارا». شتان ما بين الثوار حقا ونبّاشي القبور وقاطعي الرؤوس، وإن كانت رؤوس تماثيل. أجل، في البدء كانت ثورة، لكن صراصير الظلام أصروا على اختطافها، وبأوامر من أسيادهم على عسكرتها، وتحويلها إلى مذبحة دمرت الوطن وقتلت البشر وحطمت الحجر، وأحيانا سرقته وباعته في المزادات السرية والعلنية وفي البازارات الأوروبية والخليجية. فأنى لنبّاشي القبور وسارقي الآثار ومرتزقة آخر الزمان أن ينظموا مجتمعا وأن يبنُوا وطنا!
إن تذكيرنا اليوم بما آل إليه تمثال المعري لا ينسينا دقيقة واحدة مصير مئات الآلاف من الضحايا والجرحى والمشرَّدين والمهجَّرين السوريين الأبرياء. فلن يساوي أي نصب تذكاري مهما بلغت قيمته وكيفما كان شأن من يخلد ذكراه حياةَ مواطن سوري واحد يُقتل غيلة، ودموع أم سورية ثَكْلى. بيد أن صورة واحدة من الميدان قد تختزل الكثير من التفاصيل، وإن لم تكن كافية لمعرفة كل الحكاية السورية، عفوا ملايين الحكايات.
وستقف الأجيال السورية القادمة في يوم ما عند التشفي المقيت الذي أبداه بعض الأعراب إزاء المأساة السورية الحالية بما لا يليق حتى بعرف الأعراب البدو. نتذكر جميعا كيف دعا في أوج الأزمة السورية وزير العمل السعودي آنذاك مفرج الحقباني بكل وقاحة ونذالة إلى استقدام السوريات إلى السعودية ليعملن كخادمات في البيوت…فأخرج كلامه المشين الأديبة والشاعرة السورية كوليت خوري (وهي للتذكير حفيدة فارس الخوري رئيس الوزراء السوري الأسبق في عهد الاستقلال) من خلوتها، فردت عليه بقصيدة بليغة جاء في مطلعها:
ثكلتك أمك أيها الحقباني
وبقيت ملعونا مدى الأزماني
خالفتَ أعرافَ القبائل كلها
من نسل قحطان ومن عدناني
(…)
وحرائر الشام جميعها
ذات الأصول معادن ومعاني
وضعتك يا بدوي تحت نعالها
هن النفائس لؤلؤة وجماني.
كان عصر المعري أشبه بعصرنا اليوم زمن فتن ودجل واضطرابات، ساد فيه الجهل والتخلف وفقدان البوصلة، وهذا ما تناوله شاعرنا بكثرة في قصائده الخالدة. فكثيرا ما ذم الجهلاء واحتقرهم، ونادى بتحكيم العقل واتباعه إلى حد أن وصفه بالنبي والإمام في بعض أشعاره. أنشد رهينُ المحبَـسيْن ذات يوم وكأنه يصف واقع الحال والناس في عصرنا المتوحش هذا:
قد كثُرتْ في الأرض جُهّالُنا
والعاقلُ الحازم فينا غريبُ.
وهو نفسه من قال:
اثنان أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا
دين وآخر ديِّنٌ لا عقلَ له.
لكن يبدو أن المعري أغفل أن يشير إلى ثالث من أهل الأرض لعله ضمن أولئك الذين حزّوا رأس تمثاله: من لا دين ولا عقل له بالمرة.