بقلم:د.سلمان ريا
كشفت الأزمة في وطننا أن لديه جيشاً لايستهان به من الفعاليات الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية الوطنية، لكنه يفتقر إلى المزيد من رجال الدولة الذين يحتاجهم في محنته، رجال يجعلون صوت السوريين فوق كل الأصوات، سياسيين يؤمنون بقدسية الدم السوري، ويحوّلون ما تدفق منه إلى منجزات سياسية ترفع عماد الوطن.
في الواقع مازلنا نختلف على تفسير النصوص الأيديولوجية و الشعارات التقليدية، لأننا لم نحدد مفاهيم المصطلحات التي نستعملها، وقد كان واضحاً في الخطاب السياسي العارض عبر سنوات الأزمة غياب التفريق بين مفهومي الدولة، و السلطة التي ينتجها النظام السياسي، وكذلك مازالت بعض المفاهيم مثل القومية، الشعب، الأمة، الحضارة، المواطنة، الهوية …إلخ غير واضحة المعالم في الخطاب السياسي للقوى السياسية التقليدية.
ونتيجةً لضعف الفكر السياسي الذي شكل فراغاً سمح للثقافة الغربية الولوج في ثقافات الشعوب المستضعفة إلى الحد الذي يمكن تسميته اغتصاباً ثقافياً، وذلك عبر مبادئ وشعارات برّاقة بقيت مجرد أقوال لا أفعال حتى من قبل مبتدعيها. لقد أصبحت الليبرالية اليوم أفيون المثقفين الذين يبعدهم عن الواقع ويحطم مباشرة قدرة الوعي المخدّر بالدعاية، على ملاحظة المفارقات الاجتماعية.
وحيث تجاوزت الشعوب المغتصبة ثقافياً حالتها كضحية للاغتصاب إلى حال التكيف معه حتى الحد الذي جعلهم بالنتيجة أبناءً لهذا الاغتصاب، فمعظمنا ينتقد بل يشجب ويدين الغرب على غزوهم الثقافي لنا، وفي الوقت نفسه نلوم شعوبنا لأنها غير متقدمه على الطريقة الغربية، مندفعين إلى ذلك بشكل غير واعٍ..!! فأين نحن وماهو دورنا؟ وهل نحن فعلاً هجين نتج عن ذلك الاغتصاب؟
يمكننا القول أن الليبراليين الجدد هم الربع الأبوي من جيل الأبناء الناتجين عن الاغتصاب الثقافي (حسب علم الوراثة عند ماندل)، فهم بتبعيّتهم للثقافة الوافدة ودعمها يصبحون السلاح الأكثر نفعاً الذي يستعمله نظام العولمة في تدمير الأمم ذات المكانة العظيمة في التاريخ تدميراً ذاتياً، لأن مفهومهم للانفتاح هو فتح مجتمعاتهم لنفوذ القوى الخارجية، وتهيئتها للإدارة من الخارج.
و عندما تتقدم الهويات كمعطيات جاهزة تتكئ على الروايات التاريخية، يصبح التاريخ عامل تفريق وصراع على أحقيتها. أما عندما يؤخذ الفضاء الجغرافي المستوعب للهويات كتعددية متفاعلة في الحاضر الزماني ضمن الوحدة المكانية، تصبح الهويات المتعددة جمعاً في الواحد المفرد وتركيباً جغرافياً يتقدم على نشأتها التاريخية ويعزز مضامينها الإيجابية.
فالتاريخ عامل تفريق وتشتيت، والجغرافيا عامل توحيد وتفاعل، والنبش في مزبلة التاريخ قد يثير الروائح الكريهة! .
إن التفاعل الحضاري يفضي إلى علاقات تولّد العناصر المتفاعلة، وتصبح الهوية الحضارية توليفةً بين أطراف، مفتوحةً على إمكاناتٍ متعددة، أما الهوية المحددة تحديداً أزلياً، فهي هوية غير قابلة للتفاعل، إنها هوية بدائية ثابتة في الزمان (التاريخ)، مرتعشة في المكان (الجغرافيا)، بعكس الهوية الحضارية، فهي ثابتة في المكان الجغرافيا، متصاعدة على أدراج الزمان (التاريخ).
و عليه فلا بدّ من الالتفات إلى حوامل القوى المتأصلة في المجتمع السوري لإيجاد انعطاف جديد في النظرية الاجتماعية، يعطي مفهوم “الشعب” معاني إحيائية، لاستعادة قيم الأخلاق والعدالة الاجتماعية، والنهوض الإبداعي بالفكر الاجتماعي من خلال التعاون والتضامن والانتماء الطوعي، المساهم في الصياغة الواقعية للهوية الوطنية عبر تمتين الروابط الأفقية العابرة لهويات ما قبل الدولة، و وضع خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار تنطلق بالتوازي لتواكب التغييرات الجديدة بعد زوال مرحلة الاستبداد السياسي المطلق، والتركيز على بناء الإنسان المواطن الذي ينتمي إلى المؤسسة، ويحقق ذاته بعلاقة صحيحة مع المجتمع، لايحتاج بعدها إلى النفاق (للحصول على المكاسب البسيطة)، وتجاوز مفهوم الرعية والراعي، بالانتقال من مفهوم الانتماء للقبيلة، إلى الانتماء للدولة (الوطن) التي تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات.
لا تكمن المشكلة في المصطلحات السياسية بقدر ماتكمن في المفاهيم التي يدل عليها المصطلح، لذلك فنحن بحاجة إلى اجتراح المضامين الحديثة للمصطلحات السائدة للخروج من قوقعة الماضي، وفتح الانسداد المزمن في عنق الزجاجة.
(اخبار سورية الوطن ٢-صفحة الكاتب)