د. سلمان ريا
“إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” (النحل: 90)
“لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” – رسول الله ﷺ
“متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟” – عمر بن الخطاب رضي الله عنه
منذ البدايات الأولى، كان جوهر الرسالة الإسلامية يقوم على تحرير الإنسان، وتأسيس مجتمع العدل والمساواة، لا على توريث الحكم، ولا على احتكار السلطة في يد عائلة أو قبيلة أو طائفة. لكن الدولة العربية–الإسلامية سرعان ما انزلقت من قيم الرسالة إلى منطق الملك العضوض، فاختُزلت السلطة في الأسر الحاكمة، وتحولت الخلافة إلى وراثة، وحكم الراعي إلى جبروت الراعي على الرعية.
وفي غياب مفهوم الدولة المؤسسية، لم يكن “العدل السياسي” يومًا في صلب التجربة التاريخية، بل ظلّ استثناءً عابرًا لا يؤسس لقاعدة. وهكذا، تكرَّس في الوعي التاريخي العربي أن الدولة ليست سوى “سلطة عائلية متقلبة”، تُنسب إلى الأسر: أمويون، عباسيون، مماليك، عثمانيون… لا إلى القانون أو المؤسسات.
وعليه، حين نَطَق الإسلاميون المعاصرون بمصطلح “الدولة الإسلامية”، لم يُدركوا أن المفهوم الحديث للدولة – كما تبلور بعد القرنين السابع عشر والثامن عشر – لم يكن موجودًا في تراثنا السياسي. لقد تحدثوا عن الدولة بوصفها “تاريخًا مجيدًا”، لا كعقد اجتماعي، ولا كضامن للحقوق. وقد لاحظ المستشرق فرانز روزنتال هذه المفارقة الدقيقة عندما ترجم مقدمة ابن خلدون، فاختار أن يُترجم كلمة “دولة” بـ “Dynasty” أي الأسرة الحاكمة، لا “State” التي تعني الكيان السياسي المؤسسي في العصر الحديث.
*أعباء ولادة الدولة الحديثة في العالم العربي
في العصر الحديث، وخصوصًا مع تفكك السلطنة العثمانية، وقيام الدول الوطنية العربية في بدايات القرن العشرين، وُلدت الدولة الحديثة في العالم العربي مُحمَّلة بثلاثة أثقال قاتلة:
1. مشروعٌ يتجاوز الدولة: كالقومية العربية، والأمة الإسلامية، وحتى الأممية الاشتراكية، وجميعها سعت إلى كيانٍ أكبر من الدولة، فانتقصت من شرعيتها وولائها الوطني.
2. هويات دون الدولة: من الطوائف إلى القبائل، ومن الانتماءات العرقية إلى الانقسامات المذهبية، سعت هذه البُنى إلى تفكيك الدولة من الداخل، لا إلى تعزيز وحدتها.
3. نخب غير مؤمنة بالدولة: كثيرٌ من النخب الثقافية والسياسية العربية لم تنخرط في مشروع بناء الدولة الوطنية، بل بقيت رهينة الولاءات الجزئية أو التبعية الخارجية، فعجزت عن بلورة وعيٍ جمعي حقيقي بالدولة كمصلحة عليا.
وهكذا، وُلدت الدولة العربية الحديثة ضعيفة، محصورةً بين مشاريع تُسحبها إلى ما فوقها، وهويات تُقوّضها من تحتها، ونخب تُتاجر بها أكثر مما تبنيها.
*صعود الدولة الشمولية وانهيار المعنى
ثم جاء طور الدولة الشمولية، التي ارتكزت على ثلاثية: الحزب الواحد، الزعيم الأبدي، والأجهزة الأمنية. وشيئًا فشيئًا، حلت “شرعية الأمن” محل “شرعية الدولة”. صار المواطن مطالبًا بالخضوع لا بالمشاركة، وأصبح الولاء للنظام شرطًا لنيل أدنى حقوق المواطنة. ارتفع منسوب القمع، وتلاشى الأمل. ولم يكن سقوط هذه الدول في بعض البلدان – كما في سوريا والعراق – إلا تتويجًا لمسارٍ طويل من تآكل الشرعية وانعدام الثقة.
وفي هذا السياق، من المفيد أن نعود إلى ما كتبه الماوردي في كتابه الخالد تسهيل النظر وتعديل الظفر، حين قال إن استقرار الملك يقوم على:
“دينٍ متّبع، وعدلٍ شامل، وأمنٍ عام، وخصمٍ دائم، وأملٍ فسيح.”
نعم… الدولة الحقَّة تُنتِج الأمل، لا تقمعه. تُدير الخصومات لا تُشعلها. تبني للغد، لا تسكن في الماضي. لكن دولة الاستبداد العربي صنعت نقيض ذلك: أغلقت أفق الأمل، ورفعت شعارات الأمن، فصارت قاسيةً على مواطنيها، رخوةً أمام أعدائها، تنهار من داخلها قبل أن تتعرض لأي عدوان خارجي.
*الدولة كوطن… لا كنظام
في سوريا، لم يكن النظام السياسي سوى صورة مكثفة لهذا المسار المأزوم. فقد تم اختزال الدولة في النظام، والنظام في الزعيم، والزعيم في أسطورة أُلهت في وعيٍ زائف. ومع اشتداد الأزمة، أصبح الدفاع عن النظام يُقدَّم بوصفه دفاعًا عن الدولة، ثم عن الوطن، حتى انقلب الأمر إلى استباحة الوطن باسم بقائه.
لكن ما لم يُدركه صناع الاستبداد أن “الدولة” لا تُبنى بالقوة وحدها، بل تُؤسس على عقد مواطنة متساوية. لا أحد يريد لسوريا أن تتمزق، ولكن لا أحد – أيضًا – يريد العودة إلى “سوريا الخانقة”، تلك التي كانت تُمسك بتلابيب الحريات، وتُقصي كل من لا ينتمي إلى سردية النظام.
*لحظة التأسيس الجديدة
نحن أمام لحظة تاريخية مفصلية: إما أن نعيد تأسيس الدولة السورية على قاعدة المواطنة الدستورية المتساوية، التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، وتحترم التنوع الديني والطائفي والعرقي والمناطقي، وتُعيد توزيع السلطة والثروة بعيدًا عن المركزية القاتلة… أو نعود إلى دوامة الانهيار.
الدولة التي نريدها في سوريا الغد، ليست مشروع طائفة، ولا امتداد أيديولوجيا، بل مشروع مدني إنساني جامع، يُكرّس سلطة القانون، ويُؤسّس للعدالة، ويضمن الحريات، ويُطلق قدرات السوريين لبناء وطنٍ يليق بهم بعد كل ما دفعوه من أثمان.
خاتمة الأمل: لا نحتاج زعيمًا، بل نحتاج دولة
إن سوريا – كما نحلم بها – لا تحتاج إلى زعيم، بل إلى دستور. لا تحتاج إلى من يُخضعها، بل إلى من يُنقذها. لا تحتاج إلى تجييشٍ جديد، بل إلى تصالح عميق مع ذاتها، ومع شعبها، ومع فكرة الدولة ذاتها.
فالدولة الحقّة لا تُبنى إلا بإرادة حرة، ومواطنة عادلة، ومشاركة واعية.
ومستقبل سوريا، لا يُرسم في القصور، بل يُصنع في وجدان مواطنيها.
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)