.
علي عطا
لم تكن مصر بالنسبة إلى نزار قباني مجرد محطة أولى في مسيرة عمله الديبلوماسي، فعبرها عرفه العالم العربي شاعراً مختلفاً من خلال ديوانه الإشكالي وقتذاك “طفولة نهد”، ثم إطلالته من خلال التلفزيون المصري عند بداية بثه عام 1960، وتقديمه ممثلاً إذاعيا للمرة الأولى والأخيرة عام 1967، في مسلسل “القيثارة الحزينة” الذي شارك نجاة الصغيرة بطولته، ونشر دواوينه في طبعات شعبية عبر مكتبة مدبولي ومشاركاته في إحياء الأمسيات الشعرية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب.
في كتابه “نزار قباني في مصر” (دار بيت الحكمة – القاهرة) يذهب الصحافي المصري علي النويشي إلى أنه إذا كانت دمشق تمثل الرحم الذي تشكلت فيه شعرية نزار قباني، فإن القاهرة هي الحاضنة التي تعهدت شعريته وموهبته، وصاغت جنونه وجنوحه الشعري. تحمس لموهبة نزار قباني كثيرون من أعلام الأدب في مصر، مثل توفيق الحكيم، وكان أنور المعداوي أول من كتب عن ديوانه “طفولة نهد” عقب صدوره في القاهرة عام 1948. نشر المعداوي مقاله عن “طفولة نهد” في مجلة “الرسالة” القاهرية، لكن رئيس تحرير المجلة أحمد حسن الزيات غير عنوان الديوان في المقال إلى “طفولة نهر”، “حفاظاً على وقار المجلة”، ووصف نزار ذلك بقوله: “لقد ذبح إسم الكتاب من الوريد إلى الوريد”. واعتبره المحافظون صادماً بصراحته التي تصل إلى حد الإباحية. وعلى الجانب الآخر اعتبره تقدميون عملاً من شأنه أن يصرف الانتباه عن القضايا الجوهرية التي تهم الناس.! ولاحقاً رفض نزار قباني وصفه بـ “شاعر المرأة”، كما استاء بشدة عندما وصفه عباس محمود العقاد بأنه دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه.
غلاف كتاب “نزار قباني في مصر“.
غلاف كتاب “نزار قباني في مصر“.
العاشق الغاضب
يتكئ النويشي إلى عدد كبير من المراجع المكتوبة والسمعية والبصرية في هذا الكتاب الذي جاء في 326 صفحة من القطع الكبير. ومن تلك المراجع مذكرات نزار قباني “قصتي مع الشعر” الصادرة عام 1970، والتي جاء فيها بلسان الشاعر الكبير أن “الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً، ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً”، تعليقاً على استقبال الناس قصائده ذات الطابع السياسي بعد هزيمة 1967. ويعيد النويشي نشر مقاطع من هذه المذكرات ورسائل من نزار قباني إلى عدد من المثقفين المصريين مثل محمد حسنين هيكل ورجاء النقاش وأنور المعداوي (1920 – 1965). والأخير عُرِف بارتباطه بقصة حب مع الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عبَّرت عن نفسها في رسائل تبادلاها من 1951 إلى 1954، ثم جمعها وعلَّق عليها رجاء النقاش في كتاب “صفحات مجهولة في الأدب العربي”. كتب نزار قباني للمعداوي رسالة بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 1948، جاء فيها: “إن أيامي معك في مصر أعتبرها من أكثر أيام عمري أناقة، والليل الذي طرزْناه بأشواقنا في طريق الجيزة لم يزل يسأل عنك. أنا كبير الثقة بأنني وجدتُ في مصر تلك الروح الشاعرة التي استطاعت أن تنفذ إلى عتمة ظنوني وسحيق آفاقي وتستخرج النور من صميم الظلمة” (ص 82). وكان المعداوي وقتذاك “الناقد الأدبي الأول في العالم العربي، بعدما ترك العقاد وطه حسين ميدان النقد” (ص 78). وتصدى المعداوي كذلك لنقد الشيخ علي الطنطاوي العنيف لديوان نزار قباني الأول “قالت لي السمراء” الذي صدر في دمشق عام 1944 عندما كان شاعرنا لا يزال يدرس في كلية الحقوق في الجامعة السورية.
القاهرة بدلاً من باريس
أقام نزار قباني عقب وصوله إلى القاهرة عام 1945 في حي العباسية، ثم استقر في ضاحية مصر الجديدة، وكان يستخدم المترو في الذهاب إلى عمله في وسط القاهرة، والعودة إلى بيته. وخلال ذلك كتب قصائد ديوانه “طفولة نهد”. وفي لقاء مع التلفزيون المصري أداره الشاعر فاروق شوشة قال قباني عن تلك الفترة: “كانت القاهرة فردوسي، فيها تحررتُ من جاذبية الأرض”. وأضاف: “أسعدني أن أدخل الوسط الأدبي والفني والصحافي من أعرض أبوابه، وأعرف صفوة أعلامه، والحمد لله أنهم أرسلوني إلى القاهرة بدلاً من باريس”. وعندما اشتكى من ظروف عمله الديبلوماسي في الصين عام 1958، تحدث هيكل مع عبد الناصر في هذا الأمر، فقرر نقله إلى إسبانيا، بحكم أنه وقتذاك كان رئيس الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت سوريا بوصفها الإقليم الشمالي لتلك الجمهورية، ومصر بوصفها إقليمها الجنوبي. وينقل النويشي عن الشاعر المصري أحمد الشهاوي قوله: “تعوَّد نزار على مصر وتعوَّدت مصر عليه، واعتبرته واحداً من شعرائها”. وبعدما راجت دواوين قباني بطبعاتها الشعبية في مصر، جاء دور الغناء ليحقق له الانتشار الواسع عبر أصوات نجاة الصغيرة ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وعفاف راضي، وأم كلثوم.
ارتباط متصل
أما الأمسيات التي كان يحييها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فكانت وراء توهج نجوميته في أوساط المثقفين من مصر وغيرها من البلاد العربية. وبعد مقتل زوجته بلقيس الراوي بحادث نسف سفارة العراق في بيروت في أواخر عام 1981، أطبق على نزار قباني حزن شديد، دفعه إلى التفكير جدياً في الانتقال إلى القاهرة، وما إن فعل ذلك حتى وجد نفسه في مواجهة حملة من جانب بعض الصحافيين، منهم موسى صبري وأنيس منصور، بسبب قصيدة هجا فيها السادات. وعلى رغم دفاع محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس والموسيقار محمد عبد الوهاب عنه، فإنه آثر أن ينتقل من مصر إلى سويسرا عام 1984، ثم إلى لندن.
وبحسب النويشي فإنه عندما جاء نزار قباني إلى مصر عام 1945، ديبلوماسياً في سفارة بلاده، كان عمره 22 عاماً، ومنها انطلق نحو عالم الشهرة، وعندما غادرها بعد 3 سنوات، “لم يكن يعلم أنه ارتبط بها حتى آخر لحظة في عمره”. يقول قباني: “كانت القاهرة وقتذاك، في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والإذاعي، ومن هنا كان لها بالنسبة إلي فضل الربيع على الشجر”. ووفقاً للنويشي أيضاً فإن نزار قباني، “دشَّن في مصر شاعريته ورحلته كمثقف”.
نزار الممثل
وما لا يعرفه كثيرون هو أن نزار قباني جرَّب في القاهرة أن يكون ممثلاً. ففي عام 1967 شارك بالتمثيل في المسلسل الإذاعي “القيثارة الحزينة”، من تأليف يوسف السباعي وإخراج السيد بدير وموسيقى محمد عبد الوهاب. وجاء ذلك استثماراً لنجاح أغنيتين لنجاة الصغيرة من ألحان محمد عبد الوهاب، كتبهما نزار قباني وهما: “أيظن” و”ماذا أقول له”. وقام نزار قباني في هذا المسلسل بدور صحافي يكتب الشعر، وبالتالي تضمَّن قصائد له منها “الحسناء والدفتر”. ولاحقاً غنت له نجاة الصغيرة من تلحين عبد الوهاب “متى ستعرف” وعنوانها الأصلي “إلى رجل” وهي من ديوان “قصائد متوحشة”، و”أسألك الرحيلَ” من الديوان نفسه. وغنت له أم كلثوم “أصبح عندي الآن بندقية”، و”عندي خطاب عاجل إليك”، من تلحين محمد عبد الوهاب. وغنى له عبد الحليم حافظ “رسالة من تحت الماء”، و”قارئة الفنجان” من تلحين محمد الموجي. وغنت له عفاف راضي “أحبك جداً” من تلحين بليغ حمدي. وغنت له فايزة أحمد “رسالة من امرأة”، من تلحين محمد سلطان، وعنوانها الأصلي “لا تدخلي” وهي من ديوان “قصائد”. وعقب العدوان الثلاثي على مصر 1956 كتب قصائد عدة على شكل “رسائل” موجهة إلى جندي مصري في بورسعيد.
الحزن على بيروت
وبعد انطلاق بث التلفزيون المصري عام 1960 كان نزار من أول ضيوفه في لقاءات مباشرة. وبعد هزيمة 1967 كتب “هوامش على دفتر النكسة”. كما كتب قصائد عدة في رثاء عبد الناصر، وكتب قصيدة في رثاء طه حسين.
وحب نزار قباني للقاهرة، لا يعادله سوى حبه لبيروت. يقول علي النويشي: “يظنَّ كثيرون أن نزار قباني لبناني المولد والجنسية، لما كان في قلبه من حب لهذا الوطن وعاصمته بيروت. كان دائم السكن في بيروت، وكتب العديد من القصائد أثناء الحرب في لبنان، تحكي عن حبه لهذا البلد وألمه الشديد لتحويل لبنان الثقافة والعلم والنور والجمال والحرية إلى ساحة للقتل والتدمير. ويورد النويشي في هذا السياق مقالاً نشره نزار قباني في مجلة “الحوادث اللبنانية عام 1977 بعنوان “رسالة إلى مسلَّح”، والقصيدة التي كتبها في مرضه الأخير وأوصى بألا تنشر إلا بعد وفاته، ووقَّعها على النحو التالي: “نزار قباني من العالم الآخر”، وهنا يستحضر النويشي قول صلاح عبد الصبور: “كان يريد أن يموت كي يعود للسماء / كأنه طفل سماوي شريد، قد ضلَّ عن أبيه في متاهة المساء”.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار