عبد المنعم علي عيسى
الأربعاء, 27-10-2021
راكمت أحداث أيلول 2001 بنيويورك رؤية أميركية قادت نحو وجوب دعم تيار إسلامي «معتدل» يمكن له أن يشكل حائط صد أمام «تنظيم القاعدة» المتطرف الذي تكشفت نياته بعيد هذي الأحداث السابقة الذكر، وما تكشف يثبت أن التنظيم السابق الذكر كان قد قرر التحالف مع «الشيطان الأكبر» للتخلص من «الإلحاد الشيوعي» حتى إذا ما تم له هذا الفعل الأخير باتت المهمة الأولى هي القضاء على الأول، ومن المؤكد هو أن تلك الرؤية الأميركية التي فرضت فيما بعد على واشنطن تقديم شتى صنوف دعمها لذلك التيار، هي التي أدت من حيث النتيجة إلى وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى سدة السلطة في أنقرة أواخر عام 2002، وبمعنى أدق شكلت مناخاً دولياً مواتياً لصعود تيار إسلامي كانت له مبرراته الداخلية أيضاً، وأدت تالياً إلى تنامي الدور الإقليمي التركي الذي تبنى نظامه الجديد منهج «العثمانية الجديدة» كجسر عبور للجوار تعويضاً عن تناقص الثقل التركي في أعقاب الإعلان عن انتهاء الحرب الباردة عام 1991 الذي شهد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه.
جاءت أحداث «الربيع العربي» فرصة مناسبة لخلق مناخات من النوع «المنعش» للمشروع العثماني الذي استعاد نشاطه من جديد بعيد مرحلة قصيرة قضاها رئيس النظام التركي رجب أردوغان في تثبيت سلطاته والإمساك بتلابيب القرار داخل بلاده، والمؤكد الآن هو أن ذلك المشروع كان قد حقق نجاحات مؤقتة في تونس ومصر واليمن وليبيا، حيث سيمثل بقاء دمشق عصية، حجر عثرة أمام التمكين لتلك النجاحات، لن تلبث أن تظهر تداعياتها على هذه الأخيرة جنباً إلى جنب عوامل ومتغيرات دولية من النوع الحاسم.
ستبدأ واشنطن بمراجعة حساباتها في هذا السياق منذ اغتيال السفير الأميركي في بنغازي عشية الذكرى الحادية عشر لأحداث أيلول 2001، عندما اكتشفت أن القائمين بالفعل كانوا من الإسلاميين الذين قدمت لهم الدعم بالمال والسلاح، وفي حينها راحت واشنطن ترصد رياحاً قادمة هي في مجملها لا تصب في سياق تلبية مصالحها في المنطقة.
مثّل يوم 3 تموز 2013 الذي شهد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، تعبيراً أولياً عن المتغير الأميركي الذي راحت حركاته تشي بأنه بات مقتنعاً بأن دوائر القرار لديه قد اصطنعت بيديها «روبوتاً» يصعب السيطرة عليه، أو أنه من النوع العصي على البرمجة، ومن جهة أخرى مثل ذلك الحدث بداية لتوتر تركي أميركي سوف يستمر في التصاعد إلى أن يصل إلى ذروته يوم 15 تموز 2016 الذي شهد محاولة الانقلاب على نظام أردوغان، حيث ستظهر بصمات واشنطن على تلك المحاولة منذ اللحظات الأولى، والأمر سيتعزز مع رفض الأخيرة لتسليم الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم لديها، والذي تتهمه أنقرة بالضلوع في تلك المحاولة عبر ذراع تنظيم «خدمة» الذي استطاع، كما يبدو، إنشاء ما يشبه «دولة ظل» لا يزال نظام أردوغان جاهداً في تحطيمها على الرغم من مرور خمس سنوات أو تزيد على تلك المحاولة، وما جرى هو أن السياقات السابقة كانت قد دفعت بأردوغان إلى التقارب مع موسكو بشكل متسارع منذ المصالحة الشهيرة الحاصلة شهر آب من هذا العام الأخير، بعد توتر استمر لأشهر في أعقاب إسقاط مقاتلة روسية فوق الأراضي السورية بعد نحو شهرين من انطلاق «عاصفة السوخوي» الروسية في سورية.
فيما بعد سيعمد نظام أردوغان إلى الاستثمار في التناقض الروسي الأميركي الحاصل في سورية، ومن خلاله ذهب نحو انتهاج سياسة زئبقية كان يعمد من خلالها إلى إمساك العصا من منتصفها تحقيقاً لمكاسب بدا للوهلة الأولى أن جعبته سوف تفيض بالمزيد منها.
هذا الواقع بدأ بالتغير منذ التلاقي الروسي الأميركي الحاصل ما بعد قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن في جنيف 16 حزيران الماضي، حيث ستؤسس القمة السابقة الذكر لمزيد من التلاقيات التي راحت تتكشف تباعاً على مدى الأشهر التي تلتها، الأمر الذي سيفقد نظام أردوغان ميزة اللعب على الحبال التي راحت تداعياتها تظهر جلية في السياسة الخارجية التركية، وكذلك على داخل تركي بدا مأزوماً كما لم يكن عليه منذ عقد على الأقل.
مأزق السياسة التركية اليوم يكمن في أنها لا تستطيع الذهاب بعيداً عن الولايات المتحدة المنكفئة عنها مؤخراً، وفي الآن ذاته لا تستطيع ممارسة الفعل عينه مع روسيا، فالاثنان لازمان كرافعة للنظام أولاً وللدور التركي المتأرجح بينهما ثانياً، أما العقدة فهي تتأتى من وجود قرار واضح لدى واشنطن يقضي بإيقاف فعل التأرجح الذي استثمرت فيه أنقرة طويلاً، هذا يفسر الاندفاعة التركية الحاصلة مؤخرا تجاه كل من مصر والسعودية والإمارات المتحدة، وهي، أي تلك الاندفاعة السابقة الذكر، تمثل عمق المأزق التركي الساعي نحو فضاءات أخرى كبديل من تلك التي افتقدها، لكن المؤكد هو أن المسعى، المشكوك في نجاحه، لن يصل إلى مراميه، وبمعنى آخر لن يستطيع تعويض الفاقد، فرهان كهذا هو أشبه بالرهان على مقارعة السيوف للبنادق.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)