| ناصر قنديل
عبّرت جريدة النهار في مقال وقع باسم كتبت النهار يوم أمس، عن رأي من يفترض أنها النخب المؤمنة بفكرة الدولة التي رعتها وشكلت لها مؤسسة فكر ونقاش “نهار غسان تويني”. والرأي المنشور أقرب لنعي الديمقراطية في لبنان، وتبشير بنسخة مكعبة من جهنم حيث نار لا ترحم، والمشكلة الفكرية التي فضحتها المقالة في البكائية على الديمقراطية أنها خلت من أي جهد فكري لفهم المأزق الذي يعيشه النظام اللبناني الممتد على وقع الأزمات الدستورية منذ ولادته عام 1943، فكانت عبقرية الاكتشاف الخطير هي أن السبب يعود إلى طبقة سياسية لا جدوى من مخاطبتها، بينما كان للبنان قامات ديمقراطية بنت له ثقافة دولة ضاعت معالمها اليوم على أيدي هذه الطبقة السياسية. ونغمة التباكي على عباقرة النظام اللبناني ليست جديدة، بل صارت معزوفة تم الترويج لها منذ عقود، حتى صدقها ويشارك بها الكثير من اللبنانيين، للتغطية على حقيقتين، الأولى أن لبنان القديم الذي يبكونه لا يقصد به الحياة السياسية التي يشكل الانتظام الدستوري أساساً لها، وهذه الدولة عرفت أكبر أزمتين دستوريتين، مع سعي أبرز رئيسين للجمهورية في التأسيس للديمقراطية والانتظام الدستوري لتمديد ولايتهما الرئاسية، والمقصود بشارة الخوري وكميل شمعون، ولا يُقصد بلبنان القديم الذي يبكونه السلم الأهلي، وقد عرفت هذه الدولة أخطر حربين أهليتين، عامي 1958 و1975، فعن أي انتظام دستوري وأي مسار ديمقراطي وأي قامات تاريخية لرجال الدولة تتحدّثون، وأي كذبة مضى على بيعها للبنانيين عقوداً، أم أنكم تبكون دولة كنتم أسيادها يا سادة، دولة كانت أقرب لحذاء على مقاس أقدامكم، وبات عليها أن تتسع لأقدام الآخرين مع أقدامكم؟ لأن نظرية الدولة الحذاء لا تزال هي السائدة، وهي المطلوب تغييرها، وتريدون من جعل البكاء عليها بكاء على الديمقراطية، دعوتنا ودعوة سائر اللبنانيين، كي نبكيها ويبكونها معكم؟
– النسخة الحالية من الدولة اللبنانية هي امتداد أشد فجوراً للنسخة التأسيسية، وقد سقطت معها الأقنعة التي كانت تغطي عوراتها، وصار فيها اللعب على المكشوف، وصارت المحاصصة على السكين يا بطيخ، والشعب لم يعد فيها غافلاً، كما كان في النسخات المموّهة للدولة، والمشوهة للديمقراطية، التي أسست لفساد النسخة الراهنة، لكنه تحت عباءة طوائفه شريك في هذا الفساد السياسي والاقتصادي أيضاً، ذلك أن النظام الذي تم تأسيسه على نفيين لا يبنيان وطناً، كما قال مؤسس صحيفة الأوريان جورج نقاش، قام على على معادلة الفيتو والغيتو، الفيتو الذي كان لطائفة منحت لقب الطائفة المؤسسة ومنحت قيادتها السياسية مكانة مقدسة، حتى حدث الانفجار الكبير عام 1958، فصار الفيتو ثنائي القطبية، وما فعله الطائف هو توسيع نظام الفيتو ليعم بنعمته على كل قادة الطوائف، فتم تعميم آلية إنتاج نخب السلطة، من الطائفة المؤسسة الى سائر الطوائف، بحروب إلغاء داخل الطوائف تحت عباءة صحة التمثيل، ثم على مستوى الجمهورية بحروب أهلية تحت ستار الديمقراطية، وعندما تعمّمت ما عاد ممكناً الحفاظ على أسرارها، كما تخبرنا أفلام المافيا عن نتائج تعميم أسرار العائلة الأم على العائلات الناشئة. أما الركن الثاني للنظام القائم على الغيتو، فجوهره كان ما سمي بالجغرافيا المركزية للدولة مع ميشال شيحا، ناشر صحيفة لوجور، حيث لبنان المفيد هو لبنان المصرف والمرفأ، والغيتو بينهما، وكل الذي جرى في النسخة الجديدة للنظام بعد اتفاق الطائف هو تعميم الغيتو، حيث لكل طائفة أن تقيم نسختها الخاصة منه، وتفرج عن ما تبقى من فتاته لتشكيل المساحة المشتركة للمنبوذين من طوائفهم، واسمه الفضاء الوطني لدولة لم تنوجد أصلا، وديمقراطية لم تولد، ووطن لم ينجز مراحل التكوين.
– من المصادفات أن يأتي الحديث في زمن ذكرى مجزرة إهدن، التي تضغط على ذاكرتنا بإظهار كيف قرّرت الزعامات المقدسة لعائلات الطائفة المؤسسة إعدام واحدة من زعاماتها وأجنحتها لأنها تجرأت على شق عصا الطاعة على نظام الفيتو والغيتو، وهو ما يتكرّر اليوم مع سليل زعامة آل فرنجية، إحدى العائلات المؤسسة للجمهورية الفريدة، وللأسباب ذاتها، والتقاطع الراهن الذي يستعيد لحظة 13 حزيران 1978 بالمعنى السياسي نموذج ديمقراطي بعرف عباقرة النظام وفلاسفته، حيث حروب الإلغاء إحدى آليات الديمقراطية، وفخر الصناعة اللبنانية، وحيث الغيتو يمكن أن يكون عسكرياً تحت شعار أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار، وحالات حتماً، ويشرع قتل رئيس حكومة لبنان، كما تمّ اغتيال الرئيس رشيد كرامي، ولا يرفّ للديمقراطية جفن، حيث تحسب كل الشهادات التي سفكت دماؤها، أضراراً جانبية للديمقراطية، يجب تناسيها وكل تذكير بها هو نكأ كيدي للجراح. وبالتوازي تتفتق العبقرية عن ابتكار تعايش سلمي لمفهوم الغيتو، حيث يمكن أن يكون الغيتو بصورة منقحة مدنية سلمية و”حضارية”، تحت شعار انتخاب النواب المسيحيين بأصوات الناخبين المسيحيين حصراً، ثم انتخاب رئيس الجمهورية “المسيحي” بأصوات النواب المسيحيين، والدعوة اللامركزية الإدارية والمالية ولاحقاً الأمنية، تحت شعار توسيع اجهزة شرطة البلديات، لتشكيل حرس وطني على مستوى لامركزي لكل من الولايات، وتصبح قاعدة الحياة السياسية، كلما بدا أن التطبيق الطبيعي لمعادلات الديمقراطية في النظام مزعجاً لنظام الفيتو يتم التلويح بالانتقال الى الغيتو، ونظرية ما بتشبهونا، ولكم لبنانكم ولنا لبناننا.
– النظام لم يكن ديمقراطياً يوماً، لأن نظام الفيتو والغيتو هو نظام فصل عنصري، ينال فيه مواطنون لبنانيون حق المواطنة الكاملة بصوت كامل، وينال مواطنون آخرون ربع صوت، وأصل الديمقراطية العدد، أي النصف زائداً واحداً، فهكذا يفوز الرؤساء والنواب في أميركا وفرنسا وكل بلاد الديمقراطية، وعندما كان نظام الفصل العنصري في أميركا يحرم المتحدّرون من أصول افريقية من حق الاقتراع والترشح ذهبت أميركا إلى حرب أهلية. وأهمية اتفاق الطائف أنه وضع صيغة انتقالية طال أمدها، مضمونها إدارة التوافق الوطني على قاعدة المناصفة مؤقتاً، شرط اعتماد قانون انتخابات يضعف تدريجياً العلاقة بين صحة التمثيل ونظام الغيتو، ويضيق تدريجياً دور نظام الفيتو في صناعة القرار، وصولاً لتحرير الديمقراطية من قيود الفيتو والغيتو عبر ما نصت عليه المادة 22 من الدستور بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ، فيسقط الغيتو، ويحصر الفيتو إلى أدنى حد ممكن، وما يجري اليوم هو معركة يخوضها نظام الفيتو والغيتو لتعطيل الحد الأدنى من المسار الديمقراطي، بمحاولة إحياء نظرية النوع على حساب العدد، حيث لا يهم عدد النواب بل طائفتهم، وهذا الاصطدام بين روح نظام 1943، وروح نظام الطائف، يهدد بأخذنا إلى المجهول، والمجهول يتراوح بين حرب أهلية باردة طويلة تنمو فيها الغيتوات على حساب المساحة المشتركة لمنفى يسمى دولة ووطناً، بعدما انهارت الأرضية الاقتصادية لتقديمات الدولة في الصحة والتعليم وسواها من خدمات كانت تقدّمها الدولة لمواطنيها من كل الطوائف وتشكل أرضية جمعهم تحت سقف واحد؛ أو تتحوّل في لحظة جنون الى حرب أهلية ساخنة، تمهّد او تتبع حرباً ما، أو وهم حرب ما، في الإقليم، كما في كل مرة، والحقيقة التي يجب ان تقال، سارعوا الى الديمقراطية على حساب نظام الفيتو والغيتو قبل أن تفقدوا وطنكم فتجدونه في مهب الريح، فالمنطقة تعيش ظروفاً تأسيسية تشبه تلك التي ولد فيها لبنان الكبير من رحم اتفاقيات سايكس بيكو، وإعادة رسم الخرائط قد لا ترحم.
سيرياهوم نيوز3 – البناء