باسل علي الخطيب
ذات يوم من شهر كانون الاول عام 1989،وفي مدينة دريسدن التي كانت تابعة لألمانيا الشرقيه انذاك، وقف ضابط روسي اشقر يبلغ من العمر 33 عاماً أمام باب مقر الاستخبارات السوفيتية KGB في المدينة، وقف هذا الضابط لوحده في مواجهة المئات من المحتجين الهائجين المائجين، وعلى خصره مسدسه….
هؤلاء المحتجون كانو قد اقتحموا قبل ساعة مقر الاستخبارات الألمانية الشرقية (شتازي) في ذات المدينة، واستولوا على ارشيفة، ويريدون اقتحام مقر الاستخبارات السوفيتية والسيطرة على الارشيف أيضا……
خاطب ذاك الضابط المحتجين بكل حزم، وبلغة ألمانية سلسة،ان هذه ارض سوفيتية تتبع الجيش السوفيتي، وذلك بموجب اتفاق بين الحكومتين وأنه لن يتردد ابدا في إطلاق الرصاص على من سيحاول اقتحام المبنى…..
الحزم و الاصرار التي أبداهما ذاك الضابط الروسي اجبرت المحتجين على التراجع، وحمت اسرار مخابرات بلاده الحساسة، والتي لو انها كُشفت، كان يمكن أن تضر كثيراً بالأمن القومي لبلاده، و هددت حياة الكثيرين من عملاء الاستخبارات السوفييت……
في 30 ايلول من عام 2022، كان ذاك الضابط السوفيتي إياه يقف في قاعة سانت جورج، أكبر قاعات قصر الكرملين وأكثرها هيبة، ليعلن انتهاء الأحادية القطبية، ليعلن وعن سابق تحدي وعزم بدء اكبر حرب ثقافية في تاريخ البشرية، وقد تكون الأخيرة، وذلك أثناء مراسم توقيع انضمام المقاطعات الأوكرانية لروسيا…
هذا الضابط لم يكن سوى فلاديمير بوتين رئيس جمهورية روسيا الاتحادية…
يجيد الفريق الاعلامي في الرئاسة الروسية اختيار المكان أو استعمال المكان لاظهار العظمة والقوة و العزة القومية للبلاد، بحيث تصل كلمات الرئيس بالقوة والهيبة اللازمتان حيث يجب أن تصل….
القاعة التي تمت فيها عملية التوقيع هي قاعة سانت جورج، وتلفظ باللغة الروسية قاعة جورجيفسكي، سميت القاعة باسم وسام القديس جورج المنتصر، ولمن لا يعرف هذا الوسام هو أعلى وسام يمكن أن يمنح لضابط في الجيش الروسي الذي تأسس عام 1769، القاعة تحوي عدة الواح رخامية نحت عليها أسماء اكثر من 10الاف من حاملي وسام القديس جورج المنتصر……….
على فكرة في هذه القاعدة تم استقبال المشاركين في موكب النصر الشهير عام 1945…..
كل ما في القاعة يدل على عظمة روسيا، مساحة القاعة 1615 متر مربع ، ارتفاعها 18م، الابراج الثمانية عشرة التي تدعم السقف مصنوعة على شكل تماثيل رخامية، وهذا فقط غيض من فيض جمالية وعظمة تلك القاعة….
البعض انتقد كلام الرئيس بوتين، عندما قال أن الصراعات لا تحسمها الا القوة. وكأن هذا البعض قد أعاد اكتشاف الدولاب، ومتى كان الامر غير ذلك؟؟….
دعونا نعود في الزمن قليلاً…
قد يكون كتاب (نهاية التاريخ) لفرانسيس فوكوياما عام 1993 من أخطر كتب القرن العشرين….
فوكوياما اعلن في كتابه وبشكل حاسم ونهائي انتصار الثقافة الأمريكية، وبدء العصر الأمريكي المطلق إلى ما لانهاية، معلناً موت التاريخ….
على مدى الربع القرن المنصرم ، استطاعت النيوليبرالية، أو الليبرالية المتوحشة تدجين اغلب البشرية، حيث شن مؤسسوها ومنظروها على مدى الربع القرن المنصرم كل أشكال الحروب على كل أشكال الهويات العائلية، الدينية، الوطنية، القومية، الايدلوجية، وحتى الجنسية…..
الثقافة الليبرالية المتوحشة هي نتاج أنغلو-ساكوني صرف، وتمثلها دولتا الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، والبقية أتباع أمعات….
لايوجد في ثقافة النيوليبراليه كلمة لا أو الرفض، يسعى مسوقو و منظرو هذه الثقافة إلى فرضها ولو بالقوة،
ولو بالحروب، سواء كانت حروباً عسكرية أو اقتصادية أو دعائية أو فكرية، حتى ولو أدت هذه الحروب إلى مقتل الملايين من البشر، او أدت الى تهجير الملايين، أو افقار الملايين، أو تجويع الملايين…….
لايوجد في قاموس النيوليبرالية كلمة الرحمة، لا يكترث منظروها إن دمروا البيئة، إن لوثوا الهواء، إن تغير المناخ، إن احترقت الغابات و اندثرت…
في ثقافة النيوليبرالية تسود ثقافة الصورة والشكل، المضمون يحب أن يكون فارغاً، لايوجد للإنسان فيها اسم أو انتماء قومي أو وطني أو ديني، تدمير العائلة هو هدف النيوليبرالية الاساس، في هذه الثقافة لايوجد بابا أو ماما، يوجد الوالد رقم 1 والوالد رقم 2، لذا يمكن للعائلة في هذه الثقافة أن تكون مؤلفة من ذكرين، أو امرأتين، في هذه الثقافة كل شيء لصالح أنانية الفرد، لصالح رغبات الفرد، ليس من مبدأ إحقاق حقوقه، إنما من مبدأ تقديم مصلحة الفرد على المجتمع، وان كل فرد هو كيان قائم بذاته، وكل جمع بشري هو هذا الفرد وذاك الفرد ، وليس مجتمعاً متعاضداً متكافلاً……
غاية الليبرالية المتوحشة النهائية تحويل كل فرد إلى حالة المستهلك المثالي، أن تجعله مجرد رقم في منظومة استهلاكية عابرة للأخلاق والقيم، لاتعترف إلا بالمال رباً، أياً كانت وسيلة تحصيله….
لطالما صدرت عدة تصريحات من الرئيس بوتين تظهر أنه يفهم طبيعة و ماهية الصراع الحالي، و هذا قولاً واحداً ليس فكر بوتين لوحده إنما فكر الدولة الروسية في أعمق أعماقها، هذا نهج استراتيجي و ليس أسلوباً تكتيكياً…..
يدركون أن هذا الصراع ليس صراعاً على أرض هنا أو أراضي هناك، وان يقول الرئيس بوتين بأن روسيا تفتخر أنها كانت جزءًا من حركة التحرر الوطنية العالمية، وأنها تعود لقيادتها، فهذا له دلالاته الكبيرة….
نعم، هذا العالم لايعترف إلا بالأقوياء، ولا يخضع تاريخه إلا لمنطق القوة، فكيف إذا كانت هذه القوة في الطرف الحق؟…
قد يلومني البعض أنني اميل كثيراً إلى جانب روسيا….
خذوا علماً أيها السادة أنا لا أومن بالصدف، أتعتقدون أن تطابق احرف كلمتي سوريا و روسيا هو صدفة؟؟؟…..
(سيرياهوم نيوز ٢)