| علاء اللامي
أقرَّ مجلس النواب العراقي في جلسته يوم الـ12 من أيار الجاري بالقراءة الأولى مشروع قانون «حظر التطبيع وإقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني»، المقدّم من كتلة «إنقاذ وطن»، التي تسمى غالباً «التحالف الثلاثي» بقيادة التيار الصدري، علماً أنَّ إقرار مشروع القانون يتطلب ثلاث قراءات. إنَّ سنَّ مشروع هذا القانون خطوة إيجابية مهمة، ينبغي دعمها وتأييدها بكل تأكيد، غير أن هناك تساؤلات وتعديلات مُلِحة ينبغي طرحها في هذا الصدد ومنها التساؤل حول دوافعها: فمن الناحية السياسية، هل يعتبر قانون حظر التطبيع في العراق، والذي أطلقه زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، مناورةً سياسيةً أم هو جهد حقيقي في هذا الاتجاه، قد يترتب عليه، بنصه الحالي، توجيه ضربة جديدة لهوية العراق الحضارية العربية وتعويمها أو الشطب عليها في نص القانون إرضاءً للزعامات الإقطاعية الكردية وللنزعات الأيديولوجية للإسلاميين الشيعة على حساب زملائهم ذوي التوجهات العروبية في التيار؟
لقد كان منتظراً – وهو ما تحقق فعلاً – من جميع التقدميين والوطنيين والإسلاميين والقوميين في العراق وخارجه، تأييد الدعوة التي أطلقها السيد الصدر لسنِّ قانون يحظر التطبيع مع دولة العدو من دون تردد ومنذ اليوم الأول، رغم كل ما قيل وسيقال عن البعد السياسي الداخلي العراقي والمتعلق بصراع الكتلتين السياسيتين الشيعيتين المتصارعتين على قيادة الحكم، التيار الصدري والإطار التنسيقي، حول تشريع هذا القانون، فقد طاولت الاتهامات بالتطبيع غالبية أطراف التحالف الثلاثي الذي يقوده التيار الصدري وبخاصة حزب البارزاني الذي عُرف بأنه بيت الداء التطبيعي وقناة التعامل السالكة مع دولة العدو منذ عقود.
وقد أشار محللون ومهتمون بالشأن السياسي العراقي إلى أنَّ الصدر أراد أن يبرئ نفسه أولاً، بعد سلسلة من التصريحات المؤسفة ومنها اعتباره الصراع العربي- الصهيوني في تغريدة له قبل أشهر مجرد «نزاع سوري- إسرائيلي لا ينبغي للعراقيين التورط فيه»، فبادر إلى أن يسحب بساط تلك الاتهامات ضده وضد حلفائه البارزانيين المتورطين حتى الذقن في التعامل مع إسرائيل، ومعهم بعض الساسة من العرب السنة، من تحت أقدام من يستعملونها من خصومهم، وتحديداً من تحت أقدام خصومهم في الإطار التنسيقي. فلجأ الصدر إلى طرح هذا المشروع؛ أقول، فحتى إذا صحَّ هذا الكلام – وهو صحيح بخطوطه العريضة – فإنَّ من الواجب تأييد المساعي الجارية لإقرار القانون وعدم عرقلته. ذلك أنَّ هذا القانون – بعجره وبجره – سيبقى، كما بقي القانون العراقي النافذ، والذي سنَّهُ النظام السابق، والذي يعاقب في مواده 201 و203 و204 المروجين للصهيونية أو المنتسبين إليها مباشرة أو بشكل غير مباشر بعقوبات شديدة تصل إلى الإعدام. أما مبادرات وتكتيكات السياسيين المصلحيين وأحزابهم فستذهب معهم إلى قاع بحر النسيان. ولكن إقرار القانون الجديد، خصوصاً فقرة «الأسباب الموجبة» له، لا يمكن تبريرها أو القبول بها، ويجب أن تُعاد صياغتها، لأنها تشطب ضمناً على هوية العراق الحضارية العربية، وتهمل الإشارة إلى حقوق الشعب الفلسطيني في أرض وطنه، وتستعيض عن ذلك بكلمات إنشائية ذات نكهة أيديولوجية.
إنَّ هناك ثغرة خطرة لا يمكن السكوت عليها في فقرة الأسباب الموجبة للقانون كما قلنا، إذ يبدو أن بعض قيادات «التحالف الثلاثي» يريدون، وتحت غطاء تمرير قانون حظر التطبيع، ضرب الهوية العربية للعراق، والسير على نهج حلفاء الاحتلال الأميركي الصرحاء في سنواته الأولى، وفي مقدمهم الراحل جلال الطالباني ورئيس الحزب «الديموقراطي الكردستاني» مسعود البارزاني، وحزب «المجلس الإسلامي» بزعامة الحكيم وقيادة حزب «الدعوة» بفرعيه، حين وجهوا طعنة لهذه الهوية على يد لجنة كتابة الدستور في عهد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ونذكر عَرَضاً، أن ممثل المرجعية السيستانية، الشيخ أحمد الصافي، كان قد شارك في تلك اللجنة بدور قيادي وفاعل. وحينها قررت اللجنة في ما قررت من مواد دستورية أن العراق ليس بلداً عربياً بل هو «بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب» – المادة 3 من الدستور الساري، رغم أنَّ العرب يؤلفون أكثر من 85 في المئة من سكانه، والمسلمون يشكلون أكثر من 96 في المئة منهم.
أمّا تطبيقياً، فقد تأكد بالملموس أنَّ الحكم الذي قاده «التحالف السياسي الشيعي الكردي»، كان ولا يزال يتصرّف على أساس أن العراق بلد ثنائي القومية (عرب وكرد)، وليس متعدد القوميات، خصوصاً في ترتيبات القوانين الخاصة باللغات والعلامات والرموز الخاصة بالدولة العراقية، مع عدم الاعتراف دستورياً بعروبة المكون الأوّل إذ تم شطره طائفياً إلى مكونين مجتمعيين؛ مكون شيعي وآخر سني، أمّا المكون القومي الثاني، أي الكردي، فقد ظل يمارس حقوقه كمكون قومي واحد، من حقه التباهي بهويته القومية والدفاع عنها والدعوة للانفصال على أساسها عن دولة العراق بدعم وتشجيع علني وصريح من دولة واحدة في العالم هي إسرائيل، كما تم تهميش القومية الثالثة «التركمانية» والأقليات القومية الأخرى!
من منطلق العقلية البناءة والتفاعل الإيجابي، فقد كان، ولا يزال، في الإمكان إعادة صياغة هذه الفقرة
لنعد إلى مسودة مشروع القانون الجديد ونقرأ فقرة الأسباب الموجبة لتشريعه فنجد أنها نصَّت على الآتي: «الحفاظ على المبادئ الوطنية والإسلامية والإنسانية في العراق، ونظراً للخطورة الكبيرة التي تترتب على التطبيع مع الكيان الصهيوني أو الترويج له أو التخابر أو إقامة أي علاقة معه، وقطع الطريق أمام كل من يريد إقامة أي نوع من أنواع العلاقات مع الكيان الصهيوني ووضع عقاب رادع بحقهم، والحفاظ على وحدة الصف بين أبناء الشعب وهويته الوطنية الإسلامية».
لا خلاف على ما تعلق بخطورة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولكنَّ الخلاف كل الخلاف والرفض هو على استعمال هذا القانون المهم والإيجابي كحصان طروادة لضرب هوية العراق العربية، وتحقيق الهدف الصهيوني القديم الذي بشَّرَ به بن غوريون وأمثاله من مؤسسي الكيان، والمتمثل بجعل البلدان العربية دويلات طائفية؛ سنية وشيعية وعلوية ودرزية ومارونية، متقاتلة حتى تكون اليد العليا في المنطقة لـ«دولة إسرائيل» اليهودية النووية!
فهل كان كُتابُ هذه الفقرة بحاجة إلى هذه العبارة التي تقول «الحفاظ على المبادئ الوطنية والإسلامية والإنسانية في العراق»؟ ومتى كان الكيان الصهيوني نفسه يريد ضرب المبادئ الأيديولوجية والفكرية أو يهتم بها؟ ومتى كانت المبادئ موحدَّة لدى عموم أي شعب من الشعوب؟ وماذا تستطيع إسرائيل وغيرها أن تفعل ضد المبادئ الصحيحة إذا كان أصحابها كأفراد وأحزاب متمسكين بها وصادقين في تبنيها؟
إن إسرائيل والحركة الصهيونية لا تريد، وإن أرادت فلن تستطيع، ضرب أو تحريف المبادئ والأفكار الصحيحة، بل تريد ثروات العراق وموقعه الاستراتيجي وتدمير هويته الحضارية العربية والشطب عليها أو تعويمها وتفتيها إلى هويات طائفية وعرقية، أمّا الإلحاح على إيراد هذه الكلمات الإنشائية ذات النكهة الأيديولوجية الحزبية الإسلامية على حساب الهوية العربية للعراق، فهو يدل على أن هناك احتمالين؛ فإما إنَّ كاتبي مسودة مشروع القانون كانوا بسطاء ومحدودين في تفكيرهم ومستوى وعيهم السياسي والاستراتيجي إلى درجة السذاجة والخلط، أو أنهم كانوا يقصدون فعلاً تعويم وضرب هوية العراق العربية لإرضاء حليفهم القومي الكردي!
ومع ذلك، ومن منطلق العقلية البناءة والتفاعل الإيجابي، فقد كان، ولا يزال، في الإمكان إعادة صياغة هذه الفقرة بشكل مقبول وأقرب إلى الواقع وعدم الزجِّ بموضوع الهوية في هذا الصدد وتعديلها لتكون: «إن الأسباب الموجبة لهذا القانون هي الحفاظ على العراق بلداً وشعباً وموقعاً استراتيجياً وثروات وعلى حقوق الشعب الفلسطيني في أرض وطنه ودعم مقاومته للاحتلال الصهيوني»، مع الإبقاء على العبارة التي تقول «نظراً للخطورة الكبيرة التي تترتب على التطبيع مع الكيان الصهيوني أو الترويج له أو التخابر أو إقامة أي علاقة معه، وقطع الطريق أمام كل من يريد إقامة أي نوع من أنواع العلاقات مع الكيان الصهيوني ووضع عقاب رادع بحقهم».
وفي الحد الأدنى، كان يمكن تفادي إقحام مشروع القانون في هذه المتاهة الخطرة حول هوية العراق، وعدم إهمال الإشارة إلى حقوق الشعب الفلسطيني في أرض وطنه ودعم مقاومته للاحتلال الصهيوني، ولكن محرري المسودة كرروا كلمة «إسلامية» مرتين في فقرة صغيرة ليفوزوا بتسجيل نقطة أيديولوجية وشعاريّة بوصفهم ساسة إسلاميين. فهل من العلمي والمعقول أن توصف هوية بلد وشعب ما بأنها «وطنية وإسلامية»؟ ألا تثير هذه العبارة السخرية إلى لغات الشعوب الأخرى؟ وما معنى أن تكون تلك الهوية وطنية، إن لم يكن الهدف استغفالَ الناس وشطباً للهوية الحضارية لهم وبلدهم؟
إن تكرار عملية الشطب على هوية العراق الحضارية العربية وتكرار صفات إنشائية وأيديولوجية حزبية تعد إهانة للعراقيين وللفلسطينيين معاً، وهي أيضاً مهانة ما بعدها مهانة ستلحق بمن سيوافق وسيصوت لمصلحة هذه الفقرة من مشروع القانون التي ستحقق أهم أهداف الصهيونية، كما أنها لن تزعج القوميين المتعصبين في إيران وتركيا فرأيهم قديم ومعروف في رفض هوية العراق العربية والتذكير بمطامعهم القديمة في أرض العراق وثرواته بين فترة وأخرى!
أعتقد أن الصدريين سيغامرون بسمعتهم وتراثهم إذا أصروا على هذه المنهجية في السير خلف مستشاري السوء، فهذا القانون – إذا ما أقرَّ – سيحمل اسمهم شاؤوا أو أبوا، إذا كانوا هم وراء هذا الشطب على هوية العراق العربي بلداً وشعباً، فمن المؤكد أنهم ونظامهم الطائفي ومؤسساته كلها سيرحلون ويزولون من الوجود ذات يوم ولكن العراق سيبقى وسيعود إلى هويته الحقيقة فهو وطن الجزيريين «الساميين» الأوائل منذ الأكديين والأموريين والآشوريين والآراميين والكلدانيين وحتى خاتمتهم العرب الذين أصبحوا عماد هذا المزيج الإنساني ومادته الديموغرافية العراقية المعاصرة!
ملاحظة أخيرة في هذا السياق؛ فقد ورد في تسريبات إعلامية مصدرها دوائر مجلس النواب، أن هناك أطرافاً تحاول تعديل أو إلغاء المادة الخامسة أولاً وثانياً، والخاصة بتوجيه تهمة الخيانة العظمى لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء ونوابهم والوزراء ووكلائهم وذوي الدرجات الخاصة في حال ارتكابهم جريمة التطبيع مع دولة العدو والاعتراف بها، أو تخفيف العقوبة المنصوص عليها في هذه المادة وهي الإعدام. ورغم أنني من دعاة إلغاء عقوبة الإعدام بإطلاق القول منذ عقود، ولكني أعتقد أنَّ هذه التسريبات – إنْ صحت – لا تبشر بالخير، وينبغي الوقوف ضدها ورفضها بحزم لأنها ستفرغ القانون من محتواه المراد تماماً، تاركين أمر البتِّ بوجود عقوبة الإعدام نفسها في جميع الجرائم وتعليقها أو إلغائها للقرار الشعبي الحر عبر استفتاء نزيه مستقبلاً.
سيرياهوم نيوز3 -الأخبار