آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » نقطة التوازن بين الأيديولوجيّ والاقتصاديّ.. (الاشتراكية في الاقتصاد المختلط للديمقراطية الاجتماعية)

نقطة التوازن بين الأيديولوجيّ والاقتصاديّ.. (الاشتراكية في الاقتصاد المختلط للديمقراطية الاجتماعية)

 

بقلم:الدكتور سومر منير صالح

ترتبط القضايا الأخلاقية في المجتمع ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الاقتصادية، كما تترابط القيم الثقافية والاجتماعية من جهةٍ مع طبيعة الاقتصاد ونمط الإنتاج من جهةٍ ثانية، في علاقةٍ معقّدةٍ ذات اتجاهين، فبينما تحدد القيم الثقافية -الاجتماعية الدوافع التقليدية للنمو الاقتصادي من جهة، فإنّ تلك القيم تتغير تحت تأثير التنمية الاقتصادية وأنماط الإنتاج، هنا يسلط إيميل دوركهايم الضوء على الفراغ الوجوديّ الذي يغرقُ فيه أفراد المجتمع الصناعيّ، لأنه يعظم الفردية النفعية على الجماعية، والتي ستقود حكما إلى “جحيمٍ اجتماعيّ”.

ولأنّ الليبرالية الحديثة هيّ الخطر القيميّ الأكبر على المجتمعات، فلا يمكن مواجهتها قيميّاً وأخلاقياً بالاستناد إلى منظومة الرأسمالية الاقتصادية ذاتها، لذلك لابد من بديلٍ موضوعيٍّ، فقد أوضحت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 وسنوات التقشف التي تلت ذلك بشكلٍ صارخٍ أنّ النظام العالميّ الليبراليّ الرأسماليّ قد فشل اجتماعياً، وأنّ المجتمعات الإنسانية بحاجةٍ إلى شيءٍ مختلفٍ جذرياّ.

من هنا كان تجدد السؤل حول بدائل الرأسمالية في القرن الواحد والعشرون، وعادت معه نقاشات الاشتراكية في القرن الواحد والعشرون، ونقطة البداية في نقاشات البديل الموضوعيّ هو عدم قابلية الاستمرار بنهجٍ اشتراكيٍّ أيديولوجيٍّ كلاسيكيٍّ لبناء اقتصادٍ دولتيٍّ حديثٍ، في ظلّ نظامٍ اقتصاديٍّ دوليٍّ بنته قوى الغرب الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية، ومازالت تُحكم الهيمنة عليه في ظلّ عولمةٍ متناميةٍ عالمياً. ومن جهةٍ أخرى لابدّ من نقطة توازن بين المتطلبات الاجتماعية لتحقيق استقرار المجتمع سياسياً واجتماعياً، وبين آليات الاقتصاد الحديث لمنع انهيار الاقتصاد الوطنيّ وبقائه فعالاً في هذا النظام العالميّ.

إنّ إخفاقات الاشتراكية في القرن العشرين لم تكن إدانةً للنظرية، بل إدانةً لفكرة المغالاة في التخطيط المركزي، وعليه فالتسرع باستبدال النهج الاشتراكيّ بنهجٍ ليبراليٍّ كان إخفاقاً مدمراً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فقد قادت السياسات الليبرالية الحديثة، مثل خصخصة التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والفجوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء إلى أزماتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ معقّدةٍ، سيما في البلدان التي تحولت من المنهج الاشتراكيّ إلى المنهج الليبراليّ مباشرةً، دون مرحلة تحوّلٍ مؤقتةٍ مدروسةٌ بموضوعيةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ البلدان التي قاومت هذه السياسات الاقتصادية الليبرالية الحديثة المدمرة، حققت بعض النجاحات المهمة على الصعيد الاجتماعيّ.

وإذا كانت الاشتراكية غير الأيديولوجية هيّ أحد الخيارات الاقتصادية والاجتماعية عن الليبرالية المتوحشة المتغولة، فلا يمكن للاشتراكية أن تظلّ ثابتةً في رؤاها الأيديولوجية التقليدية إذا كانت تريد إنقاذ المجتمعات الإنسانية من كوارث الليبرالية الحديثة بشقيها الاقتصاديّ والاجتماعيّ-القيميّ. هنا يوضّح جيريمي غيلبرت أنّنا بحاجة إلى سياسةٍ اشتراكيةٍ متجددةٍ تتعلم من الماضي للتكيف مع التحديات المعاصرة، ويجادل بأنّ الاشتراكية بحاجةٍ إلى السيطرة على الاقتصاد بدلاً من السماح له بالسيطرة على المجتمع-ولكن يجب أن نفعل ذلك من خلال تمكين العمال والمواطنين والمجتمعات من إدارة عالمهم على طريقتهم، كما تجادل نانسي فريزر (Nancy Fraser) بأنّ الاشتراكية المعاصرة يجب أن تلغي الاستغلال الرأسماليّ للعمل المأجور، كما يجب أن تتجاوز سلبيات استغلال سياسات الرعاية والدعم المجانية، وكذلك استغلال الممتلكات العامة، وأن تنهي مصادرة الثروة (التأميم)، الذي يقوم على مصادرة ممتلكات الأفراد لصالح الجماعة.

لذلك من الطبيعي القول إنّه حان الوقت لمحاولةٍ أخرى للإنتاج التعاونيّ والتوزيع العادل للموارد والثروة، وهذه المرة من خلال “اقتصادٍ مختلط”، يهدف إلى بناء منظومة التأمين الصحي، وفرص العمل المتاحة باستمرار، والاستثمار الضخم في البنية الأساسية، وتوفير التعليم ما قبل الجامعي للجميع، والتعليم العالي الذي تدعمه الدولة، اقتصادٌ مختلطٌ (Mixed Economy) يقوم على فكرة الجمع بين آليات السوق الحرّة وسياسات الدعم الحكومي الموجهة بدقةٍ وموضوعيةٍ، وثنائية المؤسسات الخاصة والعامة في الاقتصاد، هذا الاقتصاد المختلط يستند إلى فلسفة (الديمقراطية الاجتماعية) والتي تستند إلى مبادئ واضحةً وهادفةً في آنّ:

أولاً: العدالة الضريبية، ففي الاقتصاد المختلط تظلّ علاقات الملكية رأسماليةً فلا تلغيها الملكية العامة ولا تتعارض معها، ولكنّ هناك ضرائب متدرجةً عادلةً على الدخل والثروة للملكيات الخاصة بهدف تمويل التأمين الاجتماعيّ بمختلف أنواعه والاستثمار في الموارد البشرية.

ثانياً: ثقافة التضامن النقابيّ، فالنقابات، والتعاونيات العمالية، هيّ أبرز أدوات الضغط الاقتصادية على أصحاب الملكيات الخاصة بهدف تحسين مستوى الدخل والضمان الصحّي للعمال في الاقتصاد التشاركي المختلط. إنّ التآكل المطّرد للروح التضامنية التي بنتها الديمقراطية الاجتماعية على مدى خمسة عقودٍ عالمياً ساهمت في تغول الرأسمالية، وتراجع الحركة العمالية، وضعف المجتمع المدني، لذلك في الاقتصاد المختلط تلعب النقابات العمالية دوراً بالغ الأهمية في توازن المطالب العمالية مع الروح الرأسمالية للملكية الخاصة، وبدون القدرة على بناء ثقافة التضامن النقابّي فلا يمكن الحديث البتة عن اقتصادٍ مختلطٍ متوازن، لذلك فإنّ بناء الاشتراكية المعاصرة يتطلب حركةً اشتراكيةً منظمةً قادرةً على إنشاء مؤسساتٍ للديمقراطية الشعبية يمكن للناس من خلالها تعلم كيفية التمكن من قيادة المجتمع، ومن خلال الأحزاب والنقابات يكون النضال الوطنيّ نحو العدالة الاجتماعية من طرق برلمانية تضمن اتخاذ تدابير سياسيةً واقتصاديةً من شأنها إخضاع السوق للمبادئ الديمقراطية، ومنع الاحتكار بما يضمن منافسةً اقتصاديةً تعود بالنفع الاجتماعيّ السياسيّ على المجتمع والدولة.

ثالثاً: العدالة الاجتماعية، هيّ عدالةٌ مزدوجة السياسات، يتعاون فيها القطاعان العام والخاص لتحقيق الأهداف الاجتماعية في إطار خطةٍ اقتصاديةٍ مشتركة، فبينما تضمن الدولة بسياساتها التوزيع العادل للنمو الاقتصاديّ وضمان الرعاية الصحية والتعليمية التي ينبغي توجيه الدعم لها، كماتدعم الحكومة الشركات الضعيفة في القطاع العام والفئات المهمشة لهدف تحقيق المنافسة الصحيحة، وهنا يصبح الدعم للقطاع العام الإنتاجيّ وليس دعم للسلعة مباشرة، من جهةٍ أخرى تعمل طبيعة الاقتصاد الجديد على زيادة المسؤولية الاجتماعية للشركات والقطاع الخاص.

رابعاً: القطاع العام التنافسيّ، في الاقتصاد المختلط، هنالك منافسةٌ بين القطاعين العام والخاص، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة الكفاءة والإنتاجية، من خلال إصلاح الشركات والقطاعات الإنتاجية المملوكة للدولة لتتمكن من منافسة القطاع الخاص دون تدخلٍ حكوميٍّ مباشر، مع السماح بنطاقٍ أكبر للمؤسسات الخاصة للعمل جنباً إلى جنب مع القطاع الحكومي، إضافةً إلى السماح بالاستثمار الخاص الجزئي في الشركات المملوكة للدولة دون السماح بملكيتها.

ختاماً، يتميز النظام الاقتصاديّ المختلط بسمات كلٍّ من الاقتصاد الموجه ونظام السوق الحرة، وتتحكم الحكومة إلى حدّ معقول على طبيعة الاقتصاد، لكنّ النمو تحركه قوى العرض والطلب ومشاركة القطاعين العام والخاص في عمليات الإنتاج والتسعير، وتستخدم الحكومات في معظم الاقتصادات المختلطة السياسات المالية أو النقدية لتحفيز النمو أثناء فترات التباطؤ الاقتصادي، وبالنهاية يهدف الاقتصاد المختلط إلى ضمان عدم هيمنة الاقتصاد على نظام القيم الاجتماعية وتوجيهه، وضمان بقاء هذا الأمر ضمن توجهات السياسة العامة للدولة وفق نظامها القيميّ والأخلاقيّ.

عميد كلية العلاقات الدولية- جامعة الشام.
(سيرياهوم نيوز ٢-البعث)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بين «الانحياز والحياد الإيجابي».. علاقة «البعث» بالسلطة والمجتمع

د. مازن جبور   تثير العلاقة بين الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية، الكثير من التساؤلات والتحفظات والتي قد تصل أحياناً حد الاعتراض، وبشكل رئيس من قبل ...