| ابراهيم الأمين
لم يخرج الرئيس ميشال عون من القصر الجمهوري للتفرغ لكتابة مذكراته. هو ليس رئيساً اختير بتسوية، فتقاعد وعاد إلى منزله حيث لا أنصار ولا محازبين. ولا هو هُزم في حرب ليعاود تجربة الأسر أو النفي. الحقيقة أن ميشال عون الرئيس عاد جنرالاً، سيكون له دوره الذي سيقلق خصومه، مستنداً إلى تمثيل سياسي مسيحي ووطني يكفيه لرفع البطاقة الحمراء.
ما ينتظر الجنرال حقائق لا يمكن تجاوزها. منها إلزامية المراجعة والتقييم لتجربة السنوات الست، والأفضل إشراك الآخرين في تناولها، والتعامل معها معبراً ضرورياً للمرحلة المقبلة، من دون الوقوف عند تفاهات الخصوم والقيء الذي يخرج من وجوههم وأفواههم هذه الأيام. كما ينتظر الجنرال، أيضاً، استحقاق الدور السياسي لتياره، داخل الحكم أو خارجه، وهو أمر يحتاج إلى برنامج جديد، وإلى مقاربات جديدة لا تلزمه تغييراً في المبادئ والقناعات، لكنها توجب تعديلات جوهرية في الأهداف والتحالفات.
وإذا كانت الأزمة الوطنية وحدها تستدعي استنفاراً كبيراً من رفاق الرجل وأنصاره، فإن التحدي المتعلّق بالنظرة إلى مستقبل لبنان تبقى هي الأساس. إذ إن عون سار، خلال أكثر من ثلاثة عقود، في رحلة البحث عن الدولة التي تحمي من يمثّل من المسيحيين، أو البحث عن دور للمسيحيين في هذه الدولة. وفي الحالتين، لم يكن النصر حليفاً حقيقياً. كانت الإنجازات على شكل مقاصّة تشبه النظام الطائفي البغيض والمعطّل لأي تطور أو إصلاح. وهو ما جعله غير قادر على مواجهة عتاة الخصوم من أبناء الدولة العميقة القائمة منذ وُلد هذا الكيان، بالتحالف مع الحكام الجدد الذين أتت بهم الحروب الأهلية وضغوطات الخارج خلال خمسين عاماً على الأقل.
عملياً، لن يكون هناك من يمكنه فرض جدول أعمال المراجعة على الجنرال ورفاقه. لكن ليس من الحكمة عدم لفت الانتباه إلى ما هو أهم في هذه المرحلة، استناداً إلى التجربة، وربطاً بالاستحقاقات الداهمة. وفي هذا الإطار، تبدو الصورة معقّدة للغاية، ويحتاج تبسيطها إلى إقرار أولي بأن فكرة إعادة إنتاج النظام الطائفي، بهذه الطريقة أو تلك، فكرة غير واقعية وغير قابلة للتحقق، وستقود صاحبها إلى الوقوع مجدداً في مستنقع النظام الطائفي، وتجعل الشعارات بعيدة عن أدوات العمل وعن الإنجازات.
لقد دلّت تجربة العماد عون في السنوات الـ15 الماضية إلى أن لبنان القديم مات ولا قيامة له، وأن كل محاولات الإنعاش – كالتي يقوم بها أركان النظام الاقتصادي المجنون – لن تنتهي إلى نتائج مختلفة عما نحن عليه. وكما أدرك الجنرال أنه جاء رئيساً للجمهورية بخلاف رغبة الحاكم الأميركي والسعودي وأنصارهما في لبنان والمنطقة، يعرف أن العقبة التي وقفت في وجهه، طوال الوقت، أن برنامج الحكم لم يكن مطابقاً لآلية الوصول إلى الحكم، بل كان مطابقاً لقواعد اللعبة التقليدية.
الفرصة قائمة للانخراط في معركة الحقوق المدنية الشاملة لا الطائفية الضيقة وبناء تحالفات من خارج قواعد اللعبة
صحيح أن التسوية في لبنان لا تزال تفرض شراكة بين محورين، يتوزعان السلطة بين رئيسين للجمهورية والحكومة. لكن الأكيد أن آلية المواجهة من داخل الحكم كانت تتطلب معركة من نوع مختلف. والمشكلة بدأت في طريقة اختيار المرشحين لإدارة المؤسسات الكبرى في البلاد، من مؤسسات مالية وأمنية وعسكرية وقضائية. إذ إن الانقلاب الحقيقي لا يتطلب فوزاً بأكثرية نيابية لا طعم لها، بل يتطلب نسفاً لآليات الإدارة اليومية للبلاد.
الذهاب نحو دولة مدنية ليس شعاراً في الهواء. وتكرار تجربة البحث عن حصة وازنة أو معينة في النظام الطائفي هو الهباء بعينه. عندما يقدّم الجنرال عون طرحاً تغييرياً بهذا الحجم، سيجد أنه أمام حلفاء جدد، وسيفرض بنوداً جديدة على جدول أعمال قوى كثيرة في لبنان، العلمانية منها أو تلك التي تمثل الأقليات السياسية والطائفية، وسيجد نفسه أمام معادلة لا تلزمه التحالف مع القوى العاملة على حماية هذا النظام من داخله أو خارجه، كما سيجد نفسه ملزماً البحث عن نظرة جديدة إلى دور لبنان الاقتصادي وإلى موقعه في المنطقة والإقليم. متى كسر هذا الفريق حصار النظام الطائفي عليه أولاً، سيجد الآخرين، من حلفاء وخصوم، يتعاملون معه بطريقة مختلفة. سيكون حكماً خصماً يحتاج إلى شراسة أكبر، لكنه فقط، عندما يرفع شعار الحقوق المدنية لجميع المواطنين، سيهز القواعد الاجتماعية لأرباب الإقطاع القديم والجديد، وسيدفع بقوة تحررية كبيرة مثل حزب الله إلى مربع لا يبقى فيه محكوماً بالمعادلات الناجمة عن طبيعة النظام الطائفي في لبنان.