|شاهر نصر
رواية “الراغبون” للأديبة “نهاد أحمد” قصة امرأة تسعى لإثبات ذاتها في مجتمع ذكوري تهزّه الاضطرابات والحروب… ولقد نجحت في إثبات ذاتها بفضل إرادتها، التي تسميها الكاتبة: “الرغبة”، “لا أظن أن شيئاً يعادل رحلة الصعود. إنها تسير بوقود الرغبة.” ص10 “كم خيل إلي أن الذين يتمتعون بحيوية دائمة قد أكلوا من شجرة خرافية اسمها شجرة الرغبة”.ص22 كما نجحت بإثبات ذاتها بفضل كفاحها وعملها: “ذات صباح اتصل والدي من متجره, وأخبرني أنه وجد مكتبة بعقد استثمار طويل الأمد. كدت أطير من الفرح, لأني سأثبت وجودي في عالم النجاح والتجارب”.ص15 الكاتبة لا تترك القارئ هادئاً بل تستدعيه للتمعن معها في مسائل مختلفة من الحياة في بعديها المباشر والرمزي، وفي شخصياتها أذكر منهم:
المرأة:
لا يسعك إلا أن تتعاطف مع المرأة حين تقرأ: “كنت أكره الرجال بسبب حزن أمي”، حينما كان والد بطلة القصة “هند” يضرب أمها. ص5 وتصور الغبن الذي يصيب المرأة بسبب الأعراف والتقاليد البائدة، وقد استغربت “هند” نفسها “كيف سلّمت بالأمر كأنّ كلام والدي لا يحتمل الخطأ. ص32 لقد سيرتني غريزة القطيع, وأعمت بصيرتي عن رؤية الحق. كل ما في الأمر أنها (أي أن عمتها) طالبت بحقها, وحين أنصفها القانون لفظتها العائلة. ص33 واعتبرها الجميع بحكم الميتة.” ثم تستدرك “هند” وتقول “أيقظني من غفلتي تسلط أخي وتحكمه بحياتي وبمصيري. ذات يوم نسيت نفسي وأخذت أناقشه بأنّ الناس معادن وأني أشعر بانتمائي إلى الإنسانية وليس إلى طائفة من الطوائف، وبقيت أتحدث حتى صرخ في وجهي”… ص34 وتخبرها “أم جميلة” أنّ المنزل “لم يعد منزلكم لأنّ الأخ الأكبر يستلم سلطة المكان ويتحكم بكل شيء. لقد اعتدنا على هذه المسألة. هناك من يغير حياتنا نحن النساء البائسات”. ص54 ربّما ذلك دفع جميلة لكي تأخذ موقفاً سلبياً من الزواج: “ليتني لم أتزوج، يا هند. لقد تغيرت حياتي نحو الأسوأ.” ص57
اللغة العربية والكتاب:
يتبوأ الكتاب في “الراغبون” مكانته السامية، وتبدع الكاتبة بأسلوبها البديع في تصوير ولع “هند” بالكتاب، وتحول الكتاب، واللغة العربية إلى شخصيتين آسرتين من شخصيات الرواية، تكادان تنطقان في هذا النص الجميل : “أري في وجود الكتب في منزلنا أمر في غاية الروعة, وسيتيح لي الغوص في أعماقها واستخراج دررها.” ص9 “اختلفت حياتي بعد أن أصبح لدي مكتبة بفضل الكتب التي أودعها خالي في منزلنا”. ص10 لا غنى للناس عن الكتاب, حتى وأن كانوا يمرون في أحلك لحظات حياتهم.ص68 وكذا الأمر بالنسبة إلى عشق اللغة العربية: “عدت من المدرسة وأنا أضع بحر اللغة العربية في قلبي, لأغوص في خضمه”.
النصّ غني بالأفكار الملهمة التي تدعو القارئ للتمعن في أبعادها: “الأولاد يرممون انكسارات آبائهم.”ص14 في موازاة: “إنّ الولد مبخلة مجبنة”، أنا أرى أنّ الوسامة تكمن في طريقة التفكير ص22، “لا تعتمدي على مصادر أحادية البث والرأي”. ص24
وموقف الكاتبة من الحرب موقف إنساني رصين، وسليم يقوم على العقل والمنطق، كأنّ “عشتار” تهمس في أذنها: “الحرب مخالفة لمشيئتي على هذه الأرض”، فتقتفي أثرها، وتصون وصيتها، وتقول هند على لسانها: “أما الحرب فتمنيت أن يندثر اسمها، وأن نتخلص من كل أنواع السلاح، أن تلغى صناعته, وتجارته بالمجمل. ص34 لم نكترث بمن أطلق الرصاص. رفضنا البحث عن القاتل، ولم نسأل إن كان الرصاص طائشاً أم مقصوداً، القتلة محاطون بالحماية في زمن الحرب”.
الريف هو الملاذ لمعالجة أمراضنا، لا سيما النفسية:
ولمّا وصلت معاناة “هند” إلى أوجها قالت في نفسها: “سأفتش عن مكان وأقوم بتزيينه واعادة صياغته من جديد”. ص 30 كأنها لسان حال المرأة السورية – طائر الفينيق السوري الأصيل. فتقرر العودة إلى القرية … “إنها غريزة الإنسان فحين يشعر بالبرد يسير تلقائياً باتجاه الدفء المقيم في الذاكرة”. ص52 لكنّها في البداية أصيبت بخيبة أمل: “أخذت أفتش عن حميمية الملامح وضحكات العيون… لم تعد كما كانت بل ها هي تبدو لي الآن مثقلة بآثار الكوابيس”. ص52 تأخرت أم جميلة وبدأت الظنون تملأ رأسي. لا أستبعد أنها فعلت ذلك كي تجعلني أخرج من القرية إلى غير رجعة.”ص55
لكنّ تصميمها وطيبة صديقتها ابنة الريف “جميلة” ساعدها في تحقيق رغبتها: “أردت أن أجوب البراري لأشرك التراب والشجر بمرارة ما أشعر به. أبديت رغبتي في رعي الغنم. وحاجتي إلى الخروج إلى البراري”.ص60 كأنّ الكاتبة تدخل فرعاً من فروع الطب النفسي، لتعين الإنسان في البحث عن سبل معالجة الأمراض النفسية الناجمة عن الكوارث والحروب…
ثم تمضي “هند” لمعالجة مسألة الإجحاف الذي يصيب المرأة بسبب الأعراف والتقاليد، لا سيما من قبل المرأة نفسها: “تركت المكان بكل انهياره وذهبت لأزور عمتي. كان لقاء عذباً, كأني لم أغب عنها لحظة واحدة. هي عمتي بكل حنانها, وعطفها. ص68
وفي كل خطوة تخطوها “هند” وفي مواجهة كل مأساة، تزداد تشبثاً بأرض الوطن مما جعل يعقوب يخاطبها: “أنت وطني يا “هند”, وطني الذي ما عرفت الدفء منذ أن غادرته”ص68
الكاتبة “نهاد أحمد” موفقة في خاتمة روايتها بمعالجة مأساتها بالعمل، واختيارها قصيدة “سوف أحيا” فاتحة لدروسها في حياتها الجديد.
الرواية غنية بالأفكار والصور والمواقف الإنسانية التي تفتح آفاقاً رحبة لأسئلة عميقة، وهي قصة جديرة – بعد معالجة بعض الهنات اللغوية فيها – أن تُدرّس في دروس اللغة العربية في المدارس لتعليم الطلاب حبّ تراب الوطن، واللغة العربية، والمرأة، والكتاب، والقيم الإنسانية بعيداً عن روح الغريزة الطائفية.
إنني أعشق اللغة العربية، وأنحني أمام كل من يعشقها…
إنني أعشق المرأة، وأنحني أمام كل من يعاضد المرأة، ويسعى لتحريرها، ويعمل كي تنال حقوقها، وخط سبيل تحقيقها ذاتها، ولا سيما، إن كانت امرأة.
إنني أعشق التراب، وأنحني أمام كل من يعشق التراب، ولا سيما، تراب الوطن.
إنني أعشق الكتاب، وأنحني أمام من يقدر الكتاب…
نهاد أحمد (هند): كاتبة الأسفار المفعمة بالإلهام، عاشقة تراب الوطن، واللغة العربية، والكتاب والمناصرة لحقوق المرأة؛ تستحقين التقدير، والثناء، والاحترام على هذا الأسلوب، والنص الجميل، والمفيد، والممتع…
(سيرياهوم نيوز3-صفحة الكاتب١٩-٣-٢٠٢٢)