جولي عرب
تعرّض «متحف السودان القومي»، الواقع بالقرب من القصر الرئاسي في الخرطوم، لعمليات نهب وتدمير واسعة النطاق، من قبل قوات «الدعم السريع»، والتي اتخذت المتحف مقراً لها منذ بداية الصراع في السودان، ولم تخرج منه إلا منذ أيام قليلة. وإذ يعدّ المتحف المشار إليه، والذي ظهرت آثار النهب فيه بعد استعادة الجيش السوداني لمنطقة القصر أخيراً، من أكبر المتاحف في السودان، فقد طاولت عمليات النهب والتدمير القطع الأثرية والمقتنيات التي يضمّها من مختلف أنحاء البلاد، وتعود إلى كل الحقب التاريخية التي مرّ بها السودان، ومن بينها الفترات الفرعونية والمسيحية والإسلامية، علماً أنه افتُتح في موقعه الحالي عام 1971.
والواقع أن ثمة معابد ومدافن وتماثيل تنتشر في الحديقة التي تتوسّط فناء المتحف، كانت قد نجت من الغرق سابقاً، غير أنها لم تنجُ من تلك العمليات، إذ بعدما تمّ إنقاذها، خلال حملة «اليونيسكو» الدولية والتي تواصلت من عام 1960 إلى عام 1980، لإنقاذ آثار منطقة النوبة التي أغرقتها بحيرة ناصر جراء إنشاء السد العالي جنوب مصر، ونُقلت وأعيد تركيبها حول حوض مائي يمثّل نهر النيل، حتى تبدو وكأنها في موقعها الأصلي، نالت منها أخيراً يد النهب. وأهم هذه الآثار: معابد سمنة شرق وسمنة غرب وبوهين، بالإضافة إلى مقبرة الأمير حجو تو حتب، وأعمدة كاتدرائية فرس، والتي تعود إلى الحقبة المسيحية في السودان.
ويضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تعود إلى عصور وحقبات وحضارات سودانية قديمة، يرجع تاريخها إلى ما بين عامي 2000 و1500 قبل الميلاد، وتعرّض «ما يقارب 90%» منها للنهب والدمار، في «واحدة من أبشع عمليات التخريب التي شهدتها البلاد»، وفقاً لما أفادت به مديرة «الهيئة القومية للآثار والمتاحف»، غالية جار النبي، في حديثها إلى «الأخبار». ومن بين تلك الآثار التي طاولها النهب، مجموعة تعود إلى حضارة كرمة، التي تمثّل تطور الثقافة في المنطقة، بسبب موقعها الاستراتيجي، الممتد على طول نهر النيل، والذي مكّن تلك الحضارة آنذاك من التجارة مع المناطق المجاورة، بما في ذلك مصر القديمة.
يبدو أن عملية النهب تمّت بطريقة ممنهجة
كما يحتوي المتحف على تماثيل ضخمة لملوك الحضارة الكوشية، والتي نشأت حوالي عام 1070 قبل الميلاد، وتمثّل الصمود والقوة في وجه القوى المهيمنة آنذاك، بما فيها مصر، علماً أنه في أوجها، امتدت الإمبراطورية الكوشية من ملتقى نهري النيل (ملتقى النيلين) إلى البحر الأبيض المتوسط، ما عزّز أهميتها التجارية والثقافية الإقليمية. كما يضم المتحف مقتنيات جلدية وبرونزية وحديدية وخشبية ولوحات جدارية وأسلحة ومنحوتات، وأوانيَ فخارية وأدوات زينة وغيرها، تعود إلى الحضارات المشار إليها.
أيضاً، تُعتبر مجموعة المومياوات الفرعونية في المتحف، من أقدم المومياوات المحنّطة في العالم، وتعود إلى فترة الاستعمار المصري في منطقة النوبة السودانية، والتي أدّت إلى اندماج الثقافات وتشابك الحضارة بين البلدين. وفي هذا الإطار، يؤكد الصحافي السوداني الذي عاين المتحف، الطيب صديق، عبر منشور في فايسبوك، أنه «بعد نهب المتحف، لم يتبقَّ سوى ثلاثة تماثيل، وهي: “الإله السوداني الأسد آبادماك”، و”الإله أمون”، و”إله وادي النيل”».
ويبدو أن عملية النهب تمّت بطريقة ممنهجة؛ إذ تشير جار النبي إلى أنه «تم توثيقها عبر صور أرسلها أفراد مجهولون، تُظهر قطعاً أثرية سودانية تُباع جنوب السودان»، بالإضافة إلى «بيعها عبر الإنترنت وفي الأسواق السوداء في دول أفريقية مجاورة». كما تكشف جار النبي أن «عناصر الدعم السريع عمدت إلى تدمير أجهزة الحاسوب التي توثّق القطع في المتاحف، بهدف محو أي أثر للمؤسسة التي تحفظ تاريخ الأمة».
وفي ما يتعلق بآلية استرداد ما تمّ نهبه، تشير إلى أن «إجراءات استرداد الآثار مستمرة، من خلال التنسيق بين الهيئة القومية للآثار والمتاحف السودانية وشرطة الإنتربول، واليونيسكو»، مشدّدة على ضرورة «استرجاع القطع المسروقة وفق القانون الدولي إذا تم عرضها في مزادات علنية». كما تعرب عن تخوّفها من تأثير فقدان الآثار على المجتمع السوداني وثقافته في المستقبل، لافتة إلى أن «ذلك لا يقوّض فهمنا لمن نحن فحسب، بل يعيق أيضاً نقل المعرفة والقيم الثقافية إلى أحفادنا، ودورهم في العالم».
وخلّفت عمليات النهب موجة عارمة من الحزن والأسى في أوساط السودانيين الذين يرون في المتحف رمزاً لثقافتهم وتاريخهم المشترك. وفي هذا الإطار، تقول مقيمة سودانية في لبنان إن «المتحف كان وجهة للسودانيين وللسياح»، آملةً في «استعادة الإرث المنهوب في أسرع وقت». وليست تلك العمليات الأولى من نوعها التي تطاول المتاحف في ظلّ استمرار الصراع في البلاد؛ فإلى جانب «المتحف القومي»، كانت عدة متاحف سودانية تعرّضت للنهب والتدمير، بما في ذلك «المتحف الوطني»، و«المتحف الحربي»، و«متحف بيت الخليفة»، وفقاً لتقرير صادر عن اليونيسكو»، في 12 أيلول 2024.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-الأخبار،