قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية إنه عند افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين الشهر الماضي، احتفل الزعيم الصيني شي جين بينغ بانتصار دبلوماسي بمأدبة على شرف ضيفه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كان الزعيمان قد انتهيا للتو من بيان يعلن رؤيتهما لنظام دولي جديد تكون فيه موسكو وبكين في صميمه، نظام غير مرتبط بالقوة الأميركية.
خلال العشاء، وفقًا للإعلان الرسمي الصيني، ناقش الزعيمان “القضايا الساخنة الرئيسية ذات الاهتمام المشترك”. وأشارت الصحيفة إلى أن تفاصيل الاجتماع لا تزال سرية، لكن محادثاتهما كانت لحظة حاسمة في الأحداث التي بلغت ذروتها بعد 20 يومًا مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مما أطلق العنان لأسوأ حرب في أوروبا منذ عقود وهزات زلزالية في القوة العالمية من المرجح أن يُشعر بها على مدى عقود.
علنًا، تعهد شي وبوتين بأن صداقة بلديهما “لا حدود لها”. كما أعلن الزعيم الصيني أنه لن يكون هناك “تذبذب” في شراكتهما، ودعم اتهامات بوتين بالخيانة الغربية في أوروبا.
وزعمت الصحيفة أنه يبدو الآن أن إظهار شي للتضامن قد يكون شجّع، ربما عن غير قصد، بوتين على الرهان على خوض الحرب من أجل إخضاع أوكرانيا. إذ تُظهر استعادة مسار قرارات بكين كيف أن الاستثمار العميق للرئيس شي في العلاقة الشخصية مع الرئيس بوتين قد حد من خيارات الصين وأجبرها على الالتواءات في السياسة.
وأضافت الصحيفة أنه قبل التدخل الروسي وبعده بفترة وجيزة، بدت بكين متعاطفة مع مطالب موسكو الأمنية، مستهزئة بالتحذيرات الغربية بالحرب واتهمت الولايات المتحدة باستفزاز روسيا. لكن خلال الأسبوعين الماضيين، سعت الصين إلى الابتعاد قليلاً عن روسيا، وخففت نبرتها، معربة عن حزنها لسقوط ضحايا من المدنيين. لقد صوّرت نفسها كطرف غير متحيز، داعية إلى محادثات سلام ووقف الحرب في أسرع وقت ممكن.
وزعمت الصحيفة أن المآزق بالنسبة للصين، والسيد شي، لا يزال قائماً.
وقال بول هانلي، المدير السابق لشؤون الصين في مجلس الأمن القومي، عما إذا كان السيد شي على علم بخطط روسيا للتدخل العسكري: “إنه مذنب إذا كان يعلم، ومذنب إذا لم يكن يعلم. فإذا كان يعلم ولم يخبر الناس، فهو متواطئ. وإذا لم يخبره بوتين، فهذه إهانة له”.
وقالت الصحيفة إن تقريراً استخباراتياً غربياً كان قد خلص إلى أن المسؤولين الصينيين أبلغوا نظراءهم الروس في أوائل شباط / فبراير الماضي بعدم التدخل في أوكرانيا قبل نهاية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، على الرغم من أنه لم يكن من الواضح ما إذا كان بوتين قد أخبر شي مباشرة بأي خطط للتدخل العسكري.
وقالت الصحيفة إنه من الواضح أن التدخل الروسي قد فاجأ الكثيرين في المؤسسة الحاكمة في بكين، تاركًا المسؤولين الصينيين يندفعون للرد وإجلاء المواطنين الصينيين. وقال بعض الخبراء إنه حتى لو كان السيد شي على علم بأي شيء عن خطة بوتين، فإنه ربما كان يتوقع أن تقتصر موسكو خطواتها على المناطق في أوكرانيا المجاورة لروسيا.
وقالت يون صن، مديرة برنامج الصين في مركز ستيمسون، الذي درس تصرفات بكين في الفترة التي سبقت الحرب: “لم يتوقعوا غزوًا واسع النطاق. لست بحاجة إلى غزو أوكرانيا لتحصل على ما تريد. فلماذا تهتم؟”، ولخصت ما وصفته بوجهة نظر واسعة بين المسؤولين الصينيين.
تمتد تداعيات العملية العسكرية على الصين إلى ما وراء أوكرانيا، وحتى أوروبا. فقد أعلن “الاحتضان الحار من شي لبوتين قبل شهر واحد فقط عن طموحاتهما لبناء ما يسمونه نظاماً عالمياً أكثر عدلاً واستقرارًا – نظاماً تكون فيه الولايات المتحدة أقل تواجداً. وبدلاً من ذلك، أعقب قمتهما ذلك النوع من التدخل العسكري الطائش الأحادي في دولة مستقلة الذي طالما نددت به الصين”، بحسب زعم “نيويورك تايمز”.
صادق البيان المشترك للرئيسين شي وبوتين في 4 شباط / فبراير على اقتراح أمني روسي يستبعد أوكرانيا من الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). فمن خلال معارضة توسع الناتو، دخلت الصين في توترات حول المدى الذي يمكن لجارات روسيا من أوروبا الشرقية أن تشكّل تحالفات مع الغرب.
وقال أندرو سمول، الزميل البارز في صندوق مارشال الألماني في برلين: إنه ربما يكون بوتين قد طلب ذلك في البيان، لكنه كان الأمر بلا شك خلفية تمكينية داعمة قدمها البيان المشترك والزيارة وارتباط شي بكل هذه الأشياء.
واعتبرت الصحيفة أن هذه الوصمة جاءت على صورة شي كرجل دولة في الوقت الذي يتطلع فيه إلى مؤتمر للحزب الشيوعي هذا العام، حيث من المرجح أن يفوز بولاية ثالثة رائدة كزعيم للحزب.
قال هانلي: “إن لديه تلك العلاقة مع بوتين. إذا كنت تقترح في النظام الصيني الآن أنه لم يكن من الذكاء الاقتراب من روسيا، فأنت في الواقع تنتقد القائد”.
وأشارت الصحيفة إلى أن حرب بوتين قد جرّت الصين بالفعل إلى مكان لم تكن تهدف إليه. على مدى عقود، سعت بكين إلى بناء علاقات مع روسيا مع الإبقاء على علاقة وثيقة بأوكرانيا. في عام 1992، كانت الصين من بين أوائل الدول التي أقامت علاقات مع أوكرانيا المستقلة حديثاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وتحولت إلى أوكرانيا كمورد رئيسي للذرة ودوار الشمس وزيت بذور نبتة كانولا، وكذلك تكنولوجيا الأسلحة.
وقال سيرغي جيراسيمشوك، المحلل في منظمة أوكرانية لأبحاث السياسة الخارجية في كييف، إنه على مدى السنوات الماضية، مع تزايد عدد الأوكرانيين الذين دعموا الانضمام إلى حلف الناتو، لم يبدِ الدبلوماسيون الصينيون اعتراضات على كييف. وقال إن أوكرانيا “تحاول الوقوف على الحياد وتجنّب أي قضايا حساسة مع بكين، وتتوقع نفس الشيء من الصين”.
ورأت الصحيفة أنه مع تشدد المواقف ضد الصين في العديد من البلدان، أصبح الرئيس شي منشغلًا بالدفاع عن أمته ضد ما اعتبره تهديدات لصعودها، وخاصة من الولايات المتحدة. وقالت إنه لم تظهر أي علامات على التحسن الدائم في العلاقات في ظل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لذلك تحرك شي لتعزيز العلاقات مع بوتين لتخفيف حدة السياسات الأميركية. وتبادل الزعيمان وجهات نظر عالمية متشابهة. وأعرب كلاهما عن أسفه لانهيار الاتحاد السوفياتي. كلاهما رأى واشنطن كمحرض رئيسي على أي معارضة سياسية لحكمهما. بالنسبة لكلا الزعيمين، كانت شراكتهما رداً على جهود بايدن لتشكيل “تحالف من الديمقراطيات”.
وقال أحد المساعدين في الكرملين للصحافيين، في قمة عبر الفيديو في كانون الأول / ديسمبر 2021، إن العلاقة الصينية الروسية من حيث قربها وفعاليتها تتجاوز التحالف”.
ومع ذلك، لا يزال الرئيس شي قائداً أكثر حذرا من بوتين، وبدا متفائلاً في ألا تضطر الصين إلى الاختيار بين روسيا وأوكرانيا، بحسب “نيويورك تايمز”. وقبل شهر واحد فقط من قمته الأولمبية مع بوتين، أشاد الزعيم الصيني بـ30 عاماً من العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا. وقال شي في 4 كانون الثاني / يناير الماضي في رسالة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: “إنني أعلق أهمية كبيرة على تطوير الشراكة الاستراتيجية الصينية الأوكرانية”. لكن عندما أصبح بوتين مصمماً على قلب اتجاه أوكرانيا إلى الحصول على الحماية الأمنية الغربية، بدأ المسؤولون الصينيون يرددون الحجج الروسية. وشهدت بكين كذلك تهديداً متزايداً من الكتل العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة.
في أواخر كانون الثاني / يناير، اتصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين بنظيره الني وانغ يي، لتحذيره من وقوع حرب ضد أوكرانيا. لكن وانغ حض بلينكين على معالجة المظالم الأمنية التي تشكو منها روسيا. وقال إن أوروبا بحاجة إلى منظمة أمنية جديدة “متوازنة”، موضحًا أن حلف الناتو لا يخدم هذا الدور.
وأشارت الصحيفة إلى أنه كانت لدى بكين شكاويها الخاصة مع الناتو، متجذرة في قصف السفارة الصينية في بلغراد، صربيا، خلال حرب الناتو في عام 1999 لحماية منطقة كوسوفو الانفصالية. تعمقت هذه الشكوك عندما بدأ الناتو في عام 2021 في وصف الصين بأنها تحدٍ ناشئ للحلف.
ومع احتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، واصل المسؤولون الصينيون تكرار دفاعهم عن مخاوف روسيا الأمنية. كما سخروا من تحذيرات الاستخبارات الغربية بشأن “الغزو” الروسي الوشيك. ولفتوا إلى أن واشنطن، وليس موسكو، من يدعو إلى الحرب، مشيرين إلى غزو أميركا للعراق في عام 2003. وفي 23 شباط / فبراير الماضي، اتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ، واشنطن بـ”إثارة الذعر”.
في اليوم التالي بدأت القوات الروسية عمليتها العسكرية الخاصة. وبينما أدانت معظم الحكومات في جميع أنحاء العالم هذه العملية، وجّهت بكين انتقاداتها للولايات المتحدة وحلفائها. حتى أنها تجّنبت وصف تصرفات بوتين بأنها “غزو”. لكن في الأيام الأخيرة، بدأت لغة بكين في التحوّل، مما يعكس الرغبة في تجنب الاقتراب الشديد من بوتين، بحسب زعم الصحيفة. فقد عدّل المسؤولون الصينيون دعواتهم للاستجابة لأمن روسيا، مؤكدين أنه “يجب احترام المخاوف الأمنية المشروعة لأي دولة”. فهم لا يزالون لا يستخدمون كلمة “غزو”، لكنهم أقروا بوجود “نزاع بين أوكرانيا وروسيا”.
كما سعت الصين إلى وضع نفسها كوسيط محتمل، وإن كان ذلك حتى الآن بعبارات غامضة. وصرّح وانغ، وزير الخارجية الصيني، للصحافيين يوم الاثنين بأن بكين مستعدة “للعب دور بناء” في إجراء محادثات السلام.
وقال جيراسيمشوك، المحلل في كييف، إن جهود الصين لإبعاد نفسها عن روسيا جاءت متأخرة للغاية. وقال إن الصين ستنتظر لترى المنتصر في الحرب وتسعى لتحسين العلاقات مع المنتصر. وأضاف: “بدأ العديد من صانعي القرار في الصين ينظرون إلى العلاقات بالأبيض والأسود: إما أن تكون حليفاً للصين أو حليفاً لأميركا. لا يزالون يريدون أن يظلوا محايدين نوعاً ما، لكنهم فشلوا بذلك”.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم