خضر خروبي
على وقع الجولات المتواصلة من «الكرّ والفرّ» بين الشرطة والطلاب المحتجّين في جامعات الولايات المتحدة، لا تزال الاحتجاجات الطالبية داخل تلك الجامعات، تهيمن على المشهد السياسي الأميركي. وفي وقت شرعت فيه إدارات جامعات من مثل «كولومبيا»، و»كاليفورنيا»، و»ستانفور»، وكذلك «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا»، في الإفصاح عن نواياها حسم الموقف بالقوّة، وفرْض إجراءات عقابية في حقّ الطلاب، خلال الساعات المقبلة، مالت المؤسسات التعليمية الأميركية منذ بدء التظاهرات إلى تبرير خطواتها تحت ذرائع متنوّعة، من ضمنها «ضمان سلامة الحرم الجامعي»، و»الحق في التعلّم» بالنسبة إلى قسم من الطلاب غير المشاركين في الاحتجاجات، إلى جانب المزاعم حول «مكافحة انتهاك قواعد الاحتجاج»، فضلاً عمّا أظهرته من خشية على «سلامة» الطلاب من اليهود، وتجاهلها في الوقت نفسه مخاوف مشابهة إزاء حياة الطلاب المنحدرين من أصول عربية ومسلمة. ومع ذلك، فقد بات جلياً أن «الهبّة الطالبية»، بوصفها إحدى مترتبات دعم إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للعدوان الإسرائيلي على غزة، قد فاقمت من حدّة التصدّعات القائمة أصلاً داخل الحزب الديموقراطي، بسبب تلك الحرب، وأضعفت على نحو أكبر «الحظوظ الرئاسية» للأخير في انتخابات تشرين الثاني المقبل.
«كباش الجامعات»… تابع
أمام تكرار المشاهد نفسها من الاعتقالات في صفوف الطلبة المعتصمين داخل باحات جامعات عدة، في طليعتها «فرجينيا كومنولث»، و»فلوريدا»، و»يوتا»، والتي طاولت أكثر من 800 متظاهر منذ الـ18 من الشهر الجاري، عاد المحتجون في جامعات أخرى، إلى نصب خيام الاعتصام تضامناً مع زملائهم المعتقلين، وتجديداً للمطالبة بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، ووقف المساعدات العسكرية الأميركية إلى إسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات من الشركات التي تربطها علاقات بالجيش الإسرائيلي، وهو ما شهدته، على وجه التحديد، باحات جامعتي «مينيسوتا» و»ييل»، حيث توافدت أعداد جديدة من الطلبة لإعادة إنشاء مخيّم تضامني، بعد ساعات من فضّه من قِبَل الشرطة. ومع تلويح جامعة «كولومبيا» بالعودة إلى المقاربة الأمنية في التعامل مع الاحتجاجات، وإصرارها على قطْع مسار التفاوض مع الطلبة وفصل مجموعة من المحتجين، عمد المشاركون في الاحتجاجات إلى اقتحام مبانٍ داخل الجامعة، وأبرزها المبنى الإداري التاريخي «هاميلتون هول».
يعارض 81% من الشباب الأميركي نهج جو بايدن حيال غزة
وعلى جنبات هذا المشهد، لا تزال «حرب السرديات» محتدمة بين الجامعات والطلبة. فمن جهته، أشار كبير المفاوضين الطلابيين في «كولومبيا»، في حديث إلى شبكة «سي إن إن»، إلى أن جزءاً من خلفيات التحركات يرتبط بقيام إدارة الجامعة بالترويج لرواية معادية للفلسطينيين منذ بدء العدوان على غزة. في المقابل، وبعد محاولة إدارات الجامعات شيطنة الحَراك الطالبي، تارة عبر وصمه بـ»معاداة الساميّة»، وأخرى باتهامه بـ»التعدّي على الملكية الخاصة»، لجأت تلك الإدارات إلى اعتماد تكتيك جديد، يقوم على التشكيك في هوية القائمين على الحَراك، وبالتالي في أهدافه ذات المضامين الإنسانية والحقوقية، من خلال اتهام مَن وصفتهم بـ»المحرّضين الخارجيين» بالوقوف خلف الفعاليات التضامنية مع فلسطين في الباحات الجامعية. لكن صحيفة «نيويورك تايمز» أشارت إلى «عدم توافر الأدلة الكافية التي تدعم ادّعاءات» مديري الجامعات الأميركية على هذا الصعيد، مبيّنة أنه «وفي كثير من الأحيان، كانت مجموعات المتظاهرين تضم في الغالب طلاباً، وموظفين ينتمون إلى الجامعات نفسها التي تشهد تظاهرات»، كما جرى في جامعة «ماري واشنطن» في ولاية فرجينيا، حيث تبيّن أن تسعة أشخاص، من أصل 12 تم اعتقالهم، هم طلاب في الجامعة، وأيضاً في جامعة «إيموري» في أتلانتا، بعدما تبيّن أن 20 شخصاً من بين المعتقلين الـ28 على يد الشرطة، تربطهم صلات (أكاديمية ومهنية) بالجامعة. وبحسب الصحيفة، فإن «الاستثناء الملحوظ» في هذا الخصوص، سُجّل في «جامعة واشنطن»، إذ تبيّن أنه من بين المعتقلين المئة، حوالى 23 طالباً منتسباً إلى الجامعة، وأربعة موظفين عاملين فيها.
تصدّعات «الديموقراطي» ومعارضة الشباب: وجه آخر لمأزق بايدن
إزاء هذا المشهد المتفاقم، بات يُنظر إلى الاحتجاجات، وما تبعها من تصريحات صادرة عن نواب وقادة من «الحزب الديموقراطي»، على أنها مؤشر إضافي إلى تأجّج الانقسامات داخل الحزب. وفي مقابل حديث بايدن نفسه، شأنه شأن النائبَين آدم شيف عن ولاية كاليفورنيا، وروبن غاليغو عن ولاية أريزونا، عن ما سمّوه «المضايقات المعادية للسامية» داخل جامعة «كولومبيا»، جاء موقف النائب الديموقراطي عن ولاية تكساس، غريغ كازار، في اتجاه معاكس، حين أثنى على الاحتجاجات الطالبية، مشدّداً على أن «مسار التاريخ غالباً ما يؤول إلى إنصاف أولئك الذين يدعون إلى السلام في وقت مبكّر» من الحروب. كما وضع كازار، الذي قدم إلى جامعة «تكساس» للإعراب عن تضامنه مع الطلبة المتظاهرين، ما تشهده جامعات البلاد ضمن تقليد قديم العهد، من الاحتجاجات الطالبية التي ألِفتها عبر مراحل مختلفة من تاريخها، على غرار ما جرى إبّان حربَي فييتنام والعراق.
ما قاله كازار، استحضر مواقف متباينة في أوساط النواب الديموقراطيين، بخاصة من اليهود، وفي مقدّمهم جاريد موسكوفيتش، الذي لم يتورّع عن التصويب على كازار، وعلى زملائه من المشرّعين الأميركيين المحسوبين على «الجناح التقدّمي» في الحزب، مستنكراً ما وصفه بـ»حالة الإنكار التي تنتاب هؤلاء، وتبنّيهم وجهة نظر تقوم على فكرة أن جميع (المتظاهرين) مسالمون، وأنه لا وجود لمعاداة السامية» في حرم الجامعات الأميركية. كذلك، استذكر موسكوفيتش إدانة بعض النواب الديموقراطيين اليساريين لتظاهرات شارلوتسفيل، التي نظّمها الجمهوريون في ولاية فيرجينيا، عام 2017، وقد تخلّلتها هتافات وُصفت بـ»المعادية للسامية» وقتذاك، معتبراً أن هؤلاء النواب أنفسهم «بدوا متردّدين في إدانة خطاب التهديد الصادر عن (الطلاب) الليبراليين» في «كولومبيا».
ما جاء على لسان موسكوفيتش لاقى رفضاً من قِبَل زميله اليهودي الآخر، النائب عن ولاية نيويورك، جيرولد نادلر، في موقف تقاطع مع ما أدلت به الناطقة باسم الحملة الانتخابية لبايدن، والتي قالت: «بينما وقف دونالد ترامب بفخر إلى جانب المتعصّبين للبيض (في تظاهرات عام 2017)، فضلاً عن تشجيعه حملات القمع العنيفة ضدّ المتظاهرين السلميين في تلك الفترة، فإن بايدن يدافع عن مندرجات التعديل الدستوري الأول، ويعمل على تعزيز الحماية ضدّ معاداة السامية وكراهية الإسلام». وفي الاتجاه نفسه، شدّدت النائبة الديموقراطية عن ولاية جورجيا، رؤى رمّان، على أنه «لا يوجد أي مجال لمعاداة السامية» في الحَراك الطالبي، محذّرة من مغبّة «التركيز على عدد قليل من الطلاب المحرّضين (ضدّ اليهود)، وتجاهل الآلاف منهم ممَّن يرحبون بهم، ويؤمنون بعالم متعدّد الأعراق والثقافات والأديان». واعتبرت النائبة الأميركية من أصول فلسطينية أنه «عندما نخسر الشباب، فإنّنا لا نخسر أصواتهم في صناديق الاقتراع فحسب، بل إنّنا نخسر تلك الأصوات في العملية الانتخابية برمّتها».
وفي ضوء ما سبق، تكثر التساؤلات في أوساط الديموقراطيين عن ارتدادات الاحتجاجات الطالبية على نتائج الانتخابات الرئاسية، خصوصاً على صعيد استمالة الناخبين اليهود أو العرب، بخاصة الشباب منهم، الذين يشكّلون في العادة قاعدة ناخبة تقليدية رافدة لمعسكر الحزب الديموقراطي، والذين تبيّن أن معظمهم يعارضون كلّاً من ترامب وبايدن. وفي هذا السياق، تلفت شبكة «سي إن إن» إلى أن «القلق والإحباط اللذين يساوران الشباب الأميركي واضحان ومتزايدان»، مشيرة إلى أن مردّ ذلك «يمتدّ إلى ما هو أوسع ممَّا يدور في الشرق الأوسط»، في إشارة إلى حالة التململ العام من النظام السياسي الأميركي. وعرّجت الشبكة على تخلّف بايدن عن ترامب بحوالى 11 نقطة في أوساط الناخبين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً، وفقاً لنتائج استطلاع للرأي أجرته خلال الأسبوع الجاري، فضلاً عن تنامي مستويات معارضة الشباب الأميركي لنهج بايدن حيال غزة إلى حدود 81%، و53% في أوساط الناخبين الديموقراطيين، لتخلص إلى أن الأمر ينطوي على «تهديد كبير لحملة الرئيس جو بايدن».
بالحديث عن المواجهة الانتخابية المرتقبة، يرى ستيف إسرائيل، وهو نائب سابق عن الحزب الديموقراطي «أن الجمهوريين ربّما قد يرون أن الفرصة مؤاتية لتوجيه الرسائل السياسية (في خضمّ صراعهم مع الديموقراطيين)، إلا أنه من السابق لأوانه تحديد ما إذا كانت تلك الرسائل ستؤتي أكلها في استحقاق تشرين الثاني المقبل»، معتبراً أن بقاء الاحتجاجات من عدمه سيبقى رهناً لما يجري في الشرق الأوسط. أما الخبير الاستراتيجي، دان سينا، فيقول إن «السؤال الحقيقي مفاده: هل يستطيع الديموقراطيون تصوير أنفسهم مرّة أخرى على أنهم اليد الثابتة على رأس السلطة؟»، ويتابع أن «النشاطات والتحرّكات التي تخلق حالة من الفوضى على مستوى البلاد، من قبيل ما يحدث في الجامعات، تجعل من الصعب على الديموقراطيين القيام بذلك».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية