• يونس خلف
هذه المادة الصحفية المنشورة في صحيفة الوطن ( حول المؤسسة العامة للحبوب ) كان من المفروض ان تنشر في صحيفة الثورة ، إلا أن عدم نشرها والملابسات والقيود التي ترافق بعض المواد التي اكتبها بعد التقاعد جعلتني اتخذ القرار النهائي بوداع صحيفة (الثورة ) الغالية على قلبي . والسبب إن التعليمات لا تسمح للصحفي الذي يتقاعد نشر مقالات سوى زاوية رأي فقط ، والسؤال : ماذا يعمل الصحفي بعد التقاعد غير العمل الإعلامي ؟ وإلى أين يذهب بعد أن تستبعده الصحيفة التي عمل فيها أكثر من ٣٥ عاماً . ولا أغالي إذا قلت هنا إن مثل هذه التعليمات أو القرارات هي أخطر وأقسى عقاب للصحفي من عدم الاستجابة للنداءات والتوصيات التي تؤكد منذ سنوات على رفع سن التقاعد للصحفيين . فإذا كانت مؤسساتنا الإعلامية هي التي توضع القيود ولا تستفيد من الخبرات الموجودة فلماذا نلوم غيرنا ، ولماذا نرمي بكرة تهميش الصحفيين وعدم الاهتمام بهم إلى ملعب غيرنا . لم أكن اتوقع ان التقاعد يفك الارتباط الذي عشقته مع هذه الصحيفة ، إلى أن جاء اليوم الذي تبلغ رحلتي مع ( الثورة ) مداها ومنتهاها . قبلت بالأمر الواقع عندما بلغت بداية العام الحالي سن التقاعد فلم يعد هناك دوام ولا مناوبات ولا أخبار عاجلة لحظة بلحظة وخاصة من المشهد الساخن والخطير في الحسكة ، وكان المأمول الذي يخفف من ألم الفراق أن أبقى مستمراً في هذه الجريدة لا بل كنت اعتقد ان ثمة بعث ُ جديد بعد التقاعد لأنني لا أقدر على تقبل فك الارتباط معها بسهولة لمجرد أنني حصلت على براءة ذمة في نهاية الخدمة ولم يعد اسمي في دفتر التفقد ، ذلك لأن ثقافة العمل صارت السمة العامة والأساسية في حياتي ورأيت فيها كل حياتي ، ولطالما كنت أقول أنّ هاجسي ليس في تقليص مساحة العمل بل هو في توسيع نطاقه ، ولذلك كنت أدرك أننا محكومون بالضوابط القانونية والإدارية لكن من الصعب أن أكبح جماح قلمي لمجرد تجاوز السن القانوني . منذ أسبوع تقدمت بمادة صحفية حول المؤسسة العامة للحبوب استكمالاً لسلسلة مقالات نشرتها قبل التقاعد حول مظاهر الفساد وسرقة الاقماح المخزنة في العراء إلا ان الرد أخيراً جاء من الزملاء الذين عملت معهم أكثر من ثلاثين عاما أن النشر لم يعد ممكناً لأنني تقاعدت ولم أعد محرراً من داخل الملاك . ربما لهم مبرراتهم الموضوعية وربما الذاتية فهم أصحاب القرار وثقتي دائماً بزملائي أن قراراتهم تولد من جسد الجريدة وليس من خارجها ، وكي لا أسبب الحرج لهم وأحافظ على عشرة العمر وقداسة المكان الذي عشقته أغادر اليوم هذا المكان إلى منطقة حرة مستقلة لكنها من الجسد الوطني . صحيفة( الوطن ) التي شرفني اليوم رئيس تحريرها الأستاذ وضاح عبد ربه بالانضمام إلى أسرة الكتابة والنشر فيها وقبل سنوات في ( الاقتصادية ) جعلتني أستذكر اليوم أن منغصات العمل الصحفي مستمرة قبل التقاعد وبعده عندما تخضع الأمور للامزجة الخاصة وعندما يتنفس الإعلام الهواء من خارج الجسد الإعلامي ، واحدة من أصعب المنغصات التي واجهتني في مسيرتي الإعلامية عندما نشرت مادة قبل أكثر من ١٥ عاماً عن الفساد الذي تسبب في تلوث مياه الشرب وتستر محافظ الحسكة انذاك على الفساد فكان الانتقام بأن دخل المحافظ إلى مكتب مدير عام الثورة انذاك وانتزع منه قرار إعفائي من رئاسة مكتب الثورة في نفس اليوم إلا أن الأستاذ وضاح عبد ربه رئيس تحرير الوطن جعل ما حدث معي قضية رأي عام لرفع الظلم عني ونشر على الصفحة الأولى خبر الإقالة والخطأ الفادح الذي ارتكبه مدير عام الثورة انذاك ، وعندما وصل الأمر إلى العين اليقظة لم تمض أيام وإذ بالأمور كلها تعود إلى مسارها الصحيح ويطوى القرار . اليوم أيضاً يتكرر المشهد في غياب التمسك بالكوادر وعدم منحها الفرصة للاستمرار بالعمل كما كان وعدم الاستفادة من خبراتها وعدم التحرر من القيود والإجراءات الإدارية التي لا يمكن أن تحمل المؤسسة الصحفية إن لم تحملها الكفاءات وتطورها المبادرات وإفساح المجال لكل جهد يسهم في إغناء الصحيفة . لن أعود إلى الثورة بعد اليوم .. ولم تعد المنبر الذي كان صوتي يصدح من خلاله ، وكلمتي كانت ترفع الظلم عن مظلومين ، وتنصف غيرهم من المهمشين والمستهدفين ، لكن لن يهدأ قلمي ولن يتوقف هاجس الكتابة لا بقرار التقاعد ولا بعدم وجود اسمي في دفتر التفقد ولا يستطيع الزمن وحده أو السن القانوني أن يحرمني من رفع الظلم عن مظلوم أو أن انتزع حقاً لصاحبه أو أن أنقل نبض الناس مهما حاصرتني الإجراءات والقيود الإدارية ومهما ظلت الرؤية للعمل الصحفي قاصرة بعدم النظر لعملنا أنه عمل فكري وإبداعي ينضج ويكبر كلما تقدمنا بالسن ، وأيضاً مهما تعددت فنون ترحيل المسؤوليات ومحاربة الكفاءات من الداخل . وداعاً ( الثورة ) وصبراً لمن يتقاعد بعدي ، وعزائي هو صوابية قناعاتي وايماني المطلق بأنه مهما اختلفت وتعددت المنابر يبقى الوطن والصحيفة التي تحمل اسمه الملاذ والحضن الدافىء .
(سيرياهوم نيوز6-الوطن31-3-2022)