أحمد الدرزي
لم يأتِ الاهتمام الأميركي المستجد بالساحة السورية من فراغ، فهو مبني في الأساس على رؤية المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في صراعها على بقاء نظام القطب الدولي الوحيد.
ما إن انتهت مناورات التنف بين القوات الأميركيّة وما يُعرف بـ”جيش سوريا الحرة” الذي تمت إعادة هيكلته بقرار وإشراف وتدريب أميركي، حتى بدأت التحركات العسكرية لقوات “قسد” باتجاه القرى السبع على الضفة الشرقية من نهر الفرات قرب حقل كونيكو في منطقة دير الزور في مواجهة الجيش السوري وحلفائه الروس والإيرانيين على الضفة الغربية من النهر، بما يستدعي التفكير في دوافع هذه التحركات العسكرية الكبيرة.
لم يأتِ الاهتمام الأميركي المستجد بالساحة السورية من فراغ، فهو مبني في الأساس على رؤية المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في صراعها على بقاء نظام القطب الدولي الوحيد الذي تتحكم فيه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، على الرغم من تراجع أهمية الملف السوري بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في شهر شباط/فبراير 2022، التي كانت تُعَوِّل عليها لتحطيم الجغرافيا الروسية وطموحاتها الإمبراطورية والتفرغ لمحاصرة الصين.
كان للرهانات الأميركية الخاطئة في الحرب الأوكرانية دور مهم في إعادة التفكير الأميركي، فما كانت تتصوره من انهيار اقتصادي لروسيا بفعل العقوبات الواسعة التي شملت كل أشكال الحياة، بما في ذلك النشاطات الرياضية والفنية، لم يحقّق أهدافه، كما أن التعويل على قدرات الجيش الأوكراني الذي يمثل رأس حربة حلف الناتو في المواجهة العسكرية لم يكن في مكانه، وخصوصاً بعد فشل الهجوم العسكري الأوكراني المضاد الأخير الذي تسبب بخسائر كبيرة لأسلحة الحلف، ما دفع الولايات المتحدة إلى التفكير في هزيمة روسيا في سوريا، وهو ما يشكل الخطوة الأولى لانسحابها منها، وبالتالي انسحابها من كل منطقة غرب آسيا.
الأمر الثاني الذي دفع الأميركيين إلى إعادة التفكير هو الحضور الصيني الكبير في منطقة غرب آسيا، وخصوصاً بعد فتح أبواب التقارب الإيراني السعودي برعاية صينية، وما ترتب على ذلك من خطوات متسارعة على الملفين السوري واليمني وارتفاع مستوى مؤشرات إعادة بناء نظام إقليمي جديد متمرد على الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وما يعني ذلك من تصاعد كبير للدورين الصيني والروسي كمظلة دولية للدول الباحثة عن أمنها واستقرارها في منطقة مضطربة لم تعرف الاستقرار عبر تاريخها، وهي بانتصارها في سوريا ستدفع الصينيين إلى إعادة التفكير في كل مشروع “مبادرة الحزام والطريق”.
الأمر الثالث لا ينفصل عمَّا يحدث في فلسطين المحتلة وحضور الدور الإيراني الواسع في الضفة الغربية بعدما نجح مشروع إيران في بناء مقاومة عسكرية استطاعت خلال المواجهات التي حصلت على مدى عامين تثبيت واقع جديد مُقلقل للعقل الصهيوني وجودياً.
وقد أثبتت معركة جنين الأخيرة حجم نجاح هذه المقاومة التي تقوم سوريا بدور مهم جداً فيها، باعتبارها ممراً أساسياً لانتقال الأسلحة إلى الضفة الغربية، عدا عن استمرار تدفق السلاح النوعي عبرها إلى جنوب لبنان، وهي من أجل الدفاع عن هذا الكيان، تحتاج إلى هزيمة إيران في سوريا وإغلاق الطريق البري بين العراق وسوريا.
الأمر الرابع هو بداية التحول العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية، بعدما نقضت الولايات المتحدة اتفاق المدمرة كوينسي عام 1945 بالدفاع عنها في مقابل استمرار تدفق النفط إليها وسحبها شبكة الدفاع الجوي “باتريوت”، ما دفعها إلى رفع مستوى العلاقات مع روسيا والصين وتعويلها عليهما كغطاء دولي يؤمن الحماية بضبط الصراع الإقليمي واستبداله بشبكة علاقات إقليمية مبنية على المصالح بين دول الإقليم، وهي بهزيمتها روسيا وإيران والصين في سوريا تستطيع كبح هذا التحول وإيقافه.
الأمر الخامس يتعلق بمشروع المصالحة السورية التركية الذي عملت عليه روسيا وإيران قبل الانتخابات الرئاسية التركية، وما يعني ذلك من المزيد من احتمالات تفلُّت تركيا من القبضة الأميركية، وخروجها من حلف الناتو فيما بعد، وبالتالي خسارة أهم نقطة ارتكاز جيوسياسية قادرة على زعزعة الداخل الروسي والصيني عبر الأقليات القومية التركية المسلمة المنتشرة في هاتين الدولتين، وهي تستطيع من خلال سوريا إعطاءها المزيد من الجوائز على حساب السوريين، إضافة إلى أن تعزيز الاحتلال العسكري الأميركي يستطيع ضبط إيقاع الطموحات التركية الواسعة، بما يتعارض مع الاستراتيجية الأميركية.
تستند الهجمة الأميركية إلى مجموعة من الخطوات المتناسقة في ما بينها على المستوى القانوني والاقتصادي والعسكري والسياسي، وتؤدي مهامها مجتمعةً مع بعضها البعض، فهي تعمل قانونياً على تطبيق قانون “الكبتاغون” والعمل على تشريع قانون جديد للكونغرس “يمنع التطبيع” مع سوريا، ما يدفع الدول العربية إلى التفكير مليّاً قبل الإقدام على أي خطوة إيجابية باتجاه الأخيرة.
وقد استطاعت كبح جماح الدول العربية بالحركة، وهذا ما تبدَّى من زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى دمشق التي كان واضحاً أنها أتت بدفع أميركي مباشر لتطبيق القرار الدولي 2254، وفق مبدأ خطوة في مقابل خطوة.
وتعتمد الخطوة الاقتصادية على المزيد من الضغوط الاقتصادية، إن كان بخفض المساعدات الإغاثية للأمم المتحدة إلى حدود 25% فقط من مجمل المساعدات التي كانت تتدفق إلى سوريا في وقت وصلت عتبة الفقر العام إلى حدود تجاوزت 90% من السوريين، مع منع الانفراجات الاقتصادية الموعودة بالمال العربي.
تعدّ الخطوات العسكريّة الأخطر من مجمل الخطوات التي تمت، فهي قد تؤدي في حال نجاحها إلى تهديد مستقبل سوريا وتجعلها غير قادرة على الحياة، وخصوصاً أن طبيعة التحركات العسكرية الأميركية والتركية الأخيرة تشكل مزيداً من التحدّي لكل من سوريا وإيران وروسيا والصين، وخصوصاً مع تصريحات فريد القاسم، القائد العام لـ”جيش سوريا الحرة”، التي تحدث فيها عن تحسُّن مستوى التنسيق مع “قوات سوريا الديمقراطية” و”الجيش الوطني”، بما يدفع إلى إيجاد قاعدة سياسية مشتركة بين مجلس سوريا الديمقراطي والائتلاف المعارض، وبما يقوّض سوريا بوجود منطقة سيطرة أميركية ممتدة من القنيطرة ودرعا والسويداء والتنف جنوباً، ووصلها بمنطقة البوكمال شرقاً، ثم كامل الشمال السوري.
تحمل الهجمة الأميركية المرتدة والواسعة المزيد من التعقيدات للكارثة السورية، رغم أنَّ احتمال نجاحها صعب التحقق على المستوى البعيد، بحكم ارتباط الحرب في سوريا بالصراع الدولي الكبير المتعدد الساحات وتقدم القوى الآسيوية الصاعدة نحو المزيد من المكاسب، إضافة إلى تصاعد المقاومة الناجحة في فلسطين وازدياد الضغوط على الكيان، مع احتمالات كبيرة لنشوب حرب معه، بما يخفف الضغوط عن سوريا، ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يُنجز من دون إراحة الداخل السوري الذي يحتاج إلى خطوات اقتصادية وسياسية داخلي ممكنة التحقيق على طريق حماية مستقبل السوريين ووطنهم.
سيرياهوم نيوز 1_ الميادين