العبارة أعلاه –والتي يكثف الجمهوريون الأميركيون من استخدامها مع اقتراب السباق الرئاسي من خط النهاية– لا تندرج فقط ضمن الحملة الإعلامية للحزب الجمهوري ومرشحه دونالد ترامب ضد الحزب الديمقراطي ومرشحته كامالا هاريس، ولا يمكن القول إنها تأتي في سياق الاتهامات المتبادلة والتي عادة ما تبلغ أوجها في مثل هذه الانتخابات، ثم تتبخر بعدها، بانتظار أن تتجدد بعد أربع سنوات، ولا تأتي (الجملة أعلاه) في إطار السخرية من الديمقراطيين وأخذها باتجاه نوع من التفكه لإضفاء جو مَرِحٍ، من نوع ما، على انتخابات تعد تاريخية في حالة الاستقطاب التي أفرزتها من جهة.. ومن جهة ثانية لناحية كونها مفتوحة في مسارها ونتائجها.. صحيح انه لم يبق على يوم الانتخاب سوى ثمانية أيام، إلا أنها مدة زمنية طويلة في هذه الانتخابات حيث يمكن للمسار أن يتغير كلياً، وربما بصورة كارثية، فالمفاجآت ما تزال قائمة.
نعود إلى «عندما أموت.. لا تدعوني أصوت للديمقراطيين» في إشارة إلى تهمة دائماً ما توجه إلى الحزب الديمقراطية الذي يُدْرج أشخاصاً متوفين على قوائم الناخبين له، أي اتهامه بالتزوير في سبيل الفوز.
عندما يستعيد الجمهوريون هذه التهمة ويركزون عليها، فهذا يعني أمرين: الأول تثبيت تهمة التزوير (المسبق) ضد الديمقراطيين ومرشحتهم هاريس. والأمر الثاني هو تثبت نتيجة أساسية مفادها أنهم – بالمطلق – لن يعترفوا بفوز هاريس، وسيتحركون ضده.. أما كيف سيتحركون؟.. فهذه علمها عند الجميع تقريباً، ولنا في الانتخابات السابقة/ 2020 / شاهد ودليل.
مع ذلك يبقى المشهد الانتخابي مفتوحاً. ليس بالضرورة أن تفوز هاريس، وقد لا تفوز. قد يتمكن ترامب من قلب الطاولة في يوم الانتخابات في الـ5 من الشهر المقبل، وقد لا يتمكن.. وحتى لو تمكن فهل هذا يعني أن المشهد الداخلي سيستقر باتجاه أربع سنوات هادئة للجمهوريين. لنتذكر كيف كانت سنوات ولاية ترامب السابقة، وكيف حولها خصومه الديمقراطيون إلى ساحة حرب عطلت مفاصل كثيرة في البلاد، من العمل الحكومي إلى الحدودي، إلى الاقتصادي والاجتماعي..الخ.
الفارق بين ترامب وهاريس في أحدث استطلاع للرأي يوم الجمعة الماضي (أجرته صحيفة نيويورك تايمز وكلية سينا) بات صفراً، عند نسبة 48 % لكليهما من دون هوامش، أي من دون فاصلة. قبل أيام فقط كانت هاريس تتقدم على ترامب بـ 0.8% اليوم بات التعادل كاملاً. وهذا ليس بمؤشر جيد سواء على المستوى الانتخابي بين هاريس وترامب، أو على المدى الأبعد حيث الأميركيين منقسمين بصورة خطيرة. ونحن هنا نتحدث عن الداخل طبعاً وما سيقود إليه من حروب سياسية مزمنة ستستمر لسنوات أربع مقبلة.
وكعادته ترامب لا يترك فرصة إلا ويتحدث عن التزوير المحتمل للانتخابات بهدف منع فوزه. ويوم أمس السبت أكد علناً وصراحة انه لن يعترف بفوز هاريس، قائلاً لمؤيديه في تجمع انتخابي حاشد إن الديمقراطيين يستعدون لتزوير نتائج التصويت.
لا يختلف المحللون حول أن كلمات ترامب تجد أرضاً خصبة، ليس داخل حزبه فقط، بل إن الأمر ينسحب على نصف الشعب الأميركي وفقاً لاستطلاعات الرأي، أي نصف الشعب سيكون ضد النصف الآخر أياً كان من يفز في الانتخابات.
لنعرض هنا ما جاء في استطلاع رأي أجراه مشروع ««World Justice Project في أيلول الماضي، حيث قال ما يقرب من نصف الجمهوريين (46٪ منهم) إنهم لن يقبلوا بنتائج الانتخابات إذا تم إعلان هاريس، و11% منهم مستعدون للاحتجاج بالأفعال. يشير هذا إلى احتجاجات قادمة ودعاوى قضائية سيدعمها المحتجون. أنصار ترامب بات اعتقادهم بأن هاريس لا تستطيع الفوز من دون تزوير أقوى في الفترة الماضية، وعليه فهم سيدعمون أي تحرك مضاد قد يقوده ترامب.
نسبة الـ48% التي يتقاسمها كل من ترامب وهاريس، ربما لم تترك أميركيين ما بين بين. إما مع ترامب أو مع هاريس (ومن ليس معنا فهو ضدنا) وفق القانون الأميركي الشهير الذي يبدو أنه انتقل من قضايا السياسة الخارجية إلى قضايا السياسة الداخلية، وهنا المسألة الأساس الأخطر.
الأميركيون الذي يتحدثون عن الانتخابات بشكل عام بغض النظر عمن يؤيدون، باتوا لا يشكلون أي كتلة، ولا أي نسبة، ربما 000001،0%. باتت الانتخابات الرئاسية الأميركية لا تتحمل أي نوع من الأخلاقيات، بما فيها الاخلاقيات العامة. هذه الانتخابات باتت تظهر وجه أميركا القبيح من الداخل (كما هو في الخارج). لا معايير ثابتة ولا قبول بالطرف/الرأي الآخر. الفردية هي الشعار والازدواجية هي المقياس حتى وصل المسار «نقطة الانهيار» وفق وصف صحيفة واشنطن بوست يوم الخميس الماضي. ورغم أن الصحيفة التي يملكها- الملياردير جيف بيزوس – أعلنت أنها لن تؤيد أياً من المرشحين، ترامب أو هاريس، إلا أنها في خطها العام تحافظ على تأييد هاريس، وتهاجم ترامب في كل فرصة، مشيرة إلا أنه لا يتفوه إلا بالكلام الفارغ، فيما المطلوب من هاريس أن تكون مثالية؟!.. متسائلة: لماذا لا أحد يحاسب ترامب على كل ما ينشره من أكاذيب وتهديدات مشؤومة ووعود مستحيلة، فيما يتم محاسبة هاريس على كلمة ؟
وتدعو واشنطن بوست الناخبين للعودة إلى شخصيات بارزة عملت مع ترامب خلال ولايته الرئاسية السابقة والتي تصفه بـ«الفاشي الذي لا يجب أن يتم منحه إدارة أخرى»… لأخذ العبر واستخلاص الدروس.
وتعد واشنطن بوست من المؤيدين التقليديين للديمقراطيين، وسبق وأعلنت دعمها لهاريس قبل أن تقرر الوقوف على الحياد.
الخطوة نفسها اتخذتها صحيفة لوس آنجلوس تايمز، فيما أعلنت صحيفة نيويورك تايمز دعمها لهاريس معتبرة أنها «الخيار الوطني الوحيد للرئاسة».. في حين أعلنت نيويورك بوست تأييدها لترامب.
ولطالما كانت هذه الصحف وغيرها من الوسائل الإعلامية المصنفة بالكبرى والمؤثرة، ذات قدرة وتأثير على توجهات الناخبين، لكنها اليوم لم تعد كذلك، بل هي عملياً باتت رهينة توجهات الناخبين، خصوصاً المؤيدين للترامب أو ما يسمى الترامبية. لقد تغيرت قواعد اللعبة للأبد لأهم انتخابات داخلية (وأخطرها خارجياً) لتصبح بسقف ديمقراطي/ جمهوري، وليس بسقف وطني أميركي.. هذه هي أميركا الجديدة.
كاتب وأكاديمي عراقي
سيرياهوم نيوز 2_تشرين