بقلم: ميرفت أحمد علي
تستدعي كلمةُ (هرَم) إلى إدراكِنا كشرقييّنَ الإعجازَ الهندسيَّ المعماريَّ المرتبطَ بتصميمِ الأَهراماتِ و بتَشييدها، إرثِ الفراعنةِ الملغُوزِ، المفخَّخِ بالحيرةِ و بالطُّلسميَّةِ، و لمَّا تنفكُّ شيفرتُهُ حتى يومِ الناسِ هذا. و بتوظيفِ المفهومِ كمقياسٍ لرَوْزِ و لتقييمِ ظواهرَ حياتيةٍ أخرى خلافَ الجماداتِ، كتبلوُرِ الفكرِ و ثراءِ و نَماءِ الثقافةِ، يمكنُ القولُ: إنَّ البناءَ الثقافيَّ يتطلبُ هندسةً عقليةً و إِعماراً ذهنيَّاً ارتقائيَّاً يُسايرُ نضوجَ المجتمعاتِ و شبوبَها عن أطواقِ الطفولةِ و الحَبْوِ و الأميَّةِ الثقافيةِ، ويلبّي حاجاتِ البشرِ المهجوسينَ بالفنونِ و بالآدابِ. و بموجبِ ذلكَ فالفعلُ الثقافيُّ نسقٌ بنائيٌّ يتّخذُ لهُ منطلقاً رحباً متيناً (قاعدةً جماهيريةً مُستعرضةً، و لَبِنةً بشريةً مُتعاضدةً) تصعدُ بهِ درجةً درجةً إلى (ذروةِ) أملٍ مُفترضٍ. و بدونِ قُطبيِّ الثنائيةِ هذيْن: القاعدةُ و الذروةُ، التجذيرُ و الارتقاءُ، لا تقومُ لثقافةٍ قائمةٌ مشهودةٌ بالتَّمايزِ و بالوَثبويَّةِ، و ستبقى الثقافةُ (غيرُ الهرميَّةِ) في وضعِ المراوحةِ في المكانِ، مُرتهنةً إلى نسقٍ أفقيٍّ فقط، تشكو رتابةَ درسِ (النظامِ المُنضمّ) المرتبطِ بالعقليةِ المحافظةِ المتكلِّسةِ التي سادتْ أجواءَ الستيناتِ منَ القرنِ المنصرمِ، و ما يزالُ كثيرونَ مِن أزلامِها و حرسِ قلاعِها الخاويةِ على عروشِها يُقيِّدونَ الفِعلَ الثقافيَّ بأغلالِ المفاهيمِ الصنميَّةِ الجوفاءِ، و بتحجُّرهِم الفكريِّ و بتعصُّبهم للسائديَّةِ و للمألوفيَّةِ اللتين عفا عليهما الزمانُ في أنماطِ التعاطي معَ الأطروحةِ الثقافيةِ التي تبدو ـــــ معَ وجودِ هؤلاءِ الصنميِّينَ ــــــ كطفلٍ شبَّ عنِ الطَّوْقِ بيولوجياً، لكنَّهُ يحيا إكراهاتِ الكبتِ و الارتهانِ لسلطةِ أبويْنِ صارميْنِ لا يرتضيانِ لهُ نمواً سيكولوجياً طبيعياً يُحرِّرُ أفكارَهُ منَ التبعيةِ للعائلةِ البيولوجيةِ، و الانتماءِ إلى عائلةِ الأهواءِ و الميولِ الفنيةِ و الفكريةِ، و تغذيةِ الروحِ بما يُقيمُ أَودَها مِن جُرعاتِ الجمالِ و الملذوذيَّةِ المرتبطةِ بتخليقِ الأدبِ و الفنِّ، و بتوطينِ الإحساسِ بالعافيةِ النفسيةِ، و بالتوازنِ بينَ هشاشةِ الواقعِ و بلادتهِ، و حيويةِ الخيالِ و انتعاشهِ. و تتواطأُ الثقافةُ التنويريَّةُ أيضاً معَ مفهومٍ فيزيائيٍّ يُحيلُ إلى المَوشوريَّةِ، ففي تقَصِّيها لأسبابِ النجاحِ، لا بدَّ لها من قبولِ الأطيافِ الفكريةِ المُتمايزةِ و المُتباينةِ في الحدَّةِ و السطوعِ، و فَلْتَرتِها و مَزْجِها في مُكوِّنٍ لونيٍّ مُستهضمٍ و مقبولٍ شعبياً و نُخبويَّاً، أي قبولُ الاختلافِ الإيجابيِّ غيرِ الاشتراطيِّ لبناءِ مجتمعٍ ثقافيٍّ يرى فيهِ الناظرونَ على اختلافِ تجنيسِهم الفنيِّ حلمَهُم المأمولَ (اللون الأبيض)، الذي إذا دخلَ الموشورَ فإنَّه يتحلَّلُ إلى سبعةِ ألوانٍ مُتفارقةٍ في الظاهرِ، متواشجةٍ في الجوهرِ. و الكائنُ الثقافيُّ بهذا المعنى ينبغي أن يتسلَّحَ بالذهنيَّةِ الموشوريَّةِ الاستقطابيَّةِ التي تجتذبُ التَّمايُزاتِ و الفَراداتِ المحيطةِ بها، و تتشرَّبُها و تدمجُها في ذاتِها المُبدعةِ (الفِلتر أو الموشور)؛ لتُعيدَ إنتاجَها بتجلِّيها الأبيضِ الناصعِ.إنَّهُ ــــ بزَعمِي ــــ مفهومُ الثقافةِ المُعاصرةِ، المتوسِّلةِ بكلِّ فريدٍ، جديدٍ، مُستجلَبٍ، مُسترغَبٍ لبناءِ ذاتِها بذاتِها دونَ قرارٍ مِن مؤسسةٍ، أو تصديقٍ من جهةٍ رسميَّةٍ. فالثقافةُ فِعلٌ تَشييديٌّ يصبُو إلى الهرميَّةِ و التَّصعيديَّةِ و التَّنامي، لا مكانَ فيهِ للانحدارييِّنَ و للمُقَوِّضين.
(سيرياهوم نيوز8-3-2022)