عبد الباري عطوان
وصلتني اليوم رسالة إلكترونيّة من شخصيّة مسيحيّة بارزة وقيّمة في سورية تقول “عندما جرى إحراق شجرة عيد الميلاد في السقيلبية وقبلها شجرة ميلاد في حلب، ثمّ بعد ذلك إحراق مقام الإمام الخصيبي أحد أبرز الشخصيّات الدينيّة للطائفة العلويّة، وتصاعد الهجمات على الأقليّات على أيدي المُتشدّدين الإسلاميين، وإهانة واغتيال بعض عناصرها، والقول إنّ المُقدمين على هذه التّجاوزات “غير سوريين”، نفضًا لليد من المسؤوليّة، فهذا يعني وللوهلة الأولى، أنّ مُستقبل “سورية الجديدة” ليس بخير.. الشّعب بدأ يخاف.. الشّعب بدأ يقلق.. الشّعب يشعر باليأس”.
***
النظام الجديد في سورية ارتكب عدّة أخطاء جعلت الكثيرين داخل سورية وخارجها يتراجعون في حماسهم وتأييدهم له، وفرحتهم العارمة والمشروعة في التّرحيب به، وهذا لا يعني حُبًّا بالنّظام السّابق:
-
الأولى: الإعلان رسميًّا عن عدم تحويل سورية إلى قاعدةٍ لمُحاربة دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحُجّة أنها مُنهكة، والتّلميح إلى احتمال توقيع اتّفاق سلام، أو هدنة رسميّة معها، الأمر الذي فسّره كثيرون بأنّ هذا النّظام الجديد يُريد إدارة ظهره للقضيّة الفِلسطينيّة، وتغيير العقيدة السوريّة المُتجذّرة في هذا المِضمار لأكثر من 76 عامًا.
-
الثانية: وجود جماعات مُتطرّفة داخل النظام الجديد أظهرت نوعًا من الشّماتة، والعداء للأقليّات الطائفيّة والدينيّة، والإقدام على أعمال استفزاز دينيّة وحياتيّة لها، وتصفيات خارج القانون من مُنطلق الانتقام والنّكاية، وحسبها على النظام السوري القديم وكُل تجاوزاته ومظالمه، خاصَّةً على صعيد حُقوق الإنسان والكرامة الشخصيّة.
-
الثالثة: مُحاولة نقل سورية قلب العُروبة من محور المُقاومة للمشروع الصّهيوني الأمريكي إلى محور التّطبيع، والشّرق الأوسط الجديد الذي يُريد نتنياهو إعادة تشكيله وفق الرّؤية الصهيونيّة وعُنوانها الأبرز قيام إسرائيل الكُبرى على كُل أراضي فِلسطين التّاريخيّة، وتسمين دولة الاحتلال باقتطاعِ أراضٍ إضافيّة من مِصر (سيناء) والأردن (كُل مِنطقة الغور، وربّما كُل الأردن وترحيل جميع أهل الضفّة إليه)، وأجزاء من سورية والعِراق (الهلال الخصيب وكُل شرق الفرات)، وشمال المملكة العربيّة السعوديّة، وربّما مكة والمدينة أيضًا.
-
الرابعة: إطلاق عمليّات عسكريّة “ثأريّة” في مُحافظة طرطوس أحد أبرز مواقع الأقليّة العلويّة في استخدامٍ مُفرط للقوّة بعد تعهّدات بتحقيقِ العدالة والمُساواة، وتكريس سورية الجديدة كوطن للجميع، صحيح أنّ بعض هذه التّجاوزات جاءت على أيدي عناصر فرديّة، ولكنّها صبّت في خدمة النّظام القديم الذي نصّب نفسه حاميًا للأقليّات الدينيّة والعِرقيّة مع تسليمنا المُسبَق بأنّ عُمر النظام السوري الجديد في الحُكم لا يزيد عن بضعة أسابيع، فإنّ ارتكاب مِثل هذه الأخطاء وبهذه السّرعة، قد يُعطي نتائج عكسيّة ويُفسح المجال لاحتِجاجات عنيفة مُضادّة، أبرز ملامحها توحيد الأقليّات في جبهةٍ مُتمرّدة، لا يعوزها السّلاح في بلدٍ مِثل سورية تُعتبر غابة سِلاح، ومُحاطة بعدّة دول مُعادية للنظام الجديد.
-
الخامسة: استبعاد مُعظم جماعات المُعارضة السوريّة العسكريّة أو المدنيّة، من النظام الجديد ومُؤسّساته حتّى الآن، وتوزيع المناصب على المُقرّبين منه فقط حتّى الآن على الأقل، والمكتوب يُقرأ من عُنوانه.
عُضو مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي أدلى بتصريحٍ اليوم على درجةٍ كبيرةٍ من الخُطورة، ربّما يعكس استراتيجيّة تدخّل عسكريّة إيرانيّة في السّاحة السوريّة ترمي إلى إصلاح الأخطاء السياسيّة التي ارتكبها محور المُقاومة، عندما قال “إنّ الشباب والشعب السوري المُقاوم لن يبقوا صامتين أمام الاحتلال الأجنبي والعُدوان والشموليّة الداخليّة لجماعةٍ ما”، وأضاف في تدوينةٍ له على حسابه على منصّة “إكس” في أقل من عام سيُعيدون إحياء المُقاومة في سورية بشكلٍ مُختلف، وسيبطلون المُخطّط الشّرير والمُخادع لأمريكا والكيان الصهيوني ودول المِنطقة”.
مِثل هذا التّصريح الخطير جدًّا، يأتي تِكرارًا توضيحيًّا لما قاله السيّد علي خامئني المُرشد الأعلى للثّورة الإيرانيّة في آخِر خُطبه، وقال فيها إنّ الشّباب السوري الشّريف سيتحرّك ويُغيّر كُل المُعادلات في سورية والمِنطقة، بمعنى آخر يُفيد أنّ إيران المُهَدّدة بعُدوانٍ إسرائيليٍّ مُوسّع تحدّث عنه بنيامين نتنياهو علانية لتدمير قُدراتها النوويّة والصاروخيّة، واجتِثاث ما تبقّى من أذرع محور المُقاومة واليمن تحديدًا، ستدعم هذا التحرّك.
لا نعرف مدى جديّة هذا التوجّه الإيراني الجديد الذي ربّما يعكس مُراجعة للأخطاء التي ارتكبها “النظام المُعتدل” الجديد المُمثّل في الرئيس مسعود بزشكيان، وذراعه الأيمن جواد ظريف، وأبرز هذه الأخطاء في رأينا الدّفع باتّجاه اتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان، وترك النظام السوري القديم يُواجه عمليّة إسقاطه دون تدخّل، بل وتحميله المسؤوليّة، وقبل هذا وذاك، عدم القيام بخطواتٍ عمليّةٍ لكسر الحصار القاتل على سورية تحت اسم (قانون قيصر) الذي أنهك الشعب السوري وقوّاته المُسلّحة، ومِثل هذا وذاك التّقارب مع أمريكا وإبداء رغبة بالحِوار المُباشر معها والعودة للاتّفاق النووي.
إذا كانت كُل من إيران وروسيا هُما الخاسِران الأكبر من المُتغيّرات السياسيّة والاستراتيجيّة الحاليّة في سورية بسبب سياسة الحذر والصّبر الاستراتيجي، فإنّ تركيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي قد تكونان الأكثر خسارة في المرحلة المُقبلة، لوقوفهما بشكلٍ مُباشر (تركيا)، أو غير مُباشر (إسرائيل)، وتحت المظلّة الأمريكيّة الرئيسيّة، خاصَّةً على ضُوء حالة الغضب وخيبة الأمل التي تطل برأسها في أوساط الشعب السوري وبعض دول المِنطقة، وخاصَّةً دول عُظمى مِثل مِصر، والجزائر، واليمن، والعِراق وإنْ بدرجةٍ أقل مرحليًّا، ففوضى السّلاح والصّراعات الداخليّة التي تنجرف إليهما سورية بشكلٍ مُتسارع هي أحد أبرز الأخطار على دولة الاحتلال، وتحويل سورية إلى لبنان أو يمنٍ آخَر، ونسف اتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان.
***
الخطر الأكبر الذي يُواجه تركيا الرئيس رجب طيب أردوغان قد يتجسّد في قيام تحالفٍ مسيحيٍّ علويٍّ ضدّ النظام الجديد في سورية، بل وضدّ الدولة التركيّة، فهُناك حواليّ ثلاثة ملايين علوي في سورية، وعشرين مِليون آخرين في تركيا، ومن غير المُستبعد أن ينضم إلى هذا الحِلف نسبة كبيرة من المُتمرّدين الأكراد في البلدين، وهذا التّحالف الجديد إذا ما تأسّس على أنقاض بعض أخطاء النظام السوري الجديد، وداعميه في أمريكا وتركيا وبعض الدول العربيّة الخليجيّة والأردن قد ينسف كُل عمليّة التّغيير الحاليّة في المِنطقة وبِما يُؤدّي إلى زعزعةِ ما تبقّى من استِقرارها.
أختم بالاتّفاق جُزئيًّا أو كُلِّيًّا، مع مضمون رسالة الشخصيّة المسيحيّة البارزة التي أرسلها لنا من قلب مدينة حمص، التي رسمت صورةً مُخيفةً ومُحبطةً للتّطوّرات الأخيرة للأوضاع في سورية بعد إحراق ضريح الإمام العلوي الكبير وحرق شجرة عيد الميلاد، والأهم من ذلك هُدوء غُبار مسألة إسقاط النظام دون قتال، وتآكُل حالة الصّدمة المُترتّبة على هذا السّقوط، والأيّام الأسابيع المُقبلة ستكون حافلة بالمُفاجآت.. والأيّام بيننا.
اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم