د. عبد الحميد فجر سلوم
لا أعرفُ لماذا البعض يعتقدون أن الشعب السوري ( غبي) وهو ليس كذلك على الإطلاق، بل إنه مِن أفطَنِ الشعوب..
كافة الدول التي تُديرُ خيوط اللعبة في سورية، وبيدها أوراق الحل، لا تملُّ من ترداد ذات العبارة على الدوام: الحل سوري ــ سوري، وفْقا للقرار 2254.. ولكن أثناء التفسير تُنسَفُ كل معاني القرار ومضامينه..
لا أعتقدُ أن عاقلا واحدا مقتنع بأن الحل سوري ــ سوري.. فالصراع والقتال في سورية لم يكُن من بدايتهِ (سوري ــ سوري) حتى نقول اليوم أن الحل (سوري ــ سوري) ..
لو عُدنا عشر سنوات للخلف، وأعدنا قراءة بعض التصريحات العربية والإقليمية والدولية، وما كانت تبثهُ بعض الفضائيات من تغطية يومية ومُبَاشرة للمظاهرات والاحتجاجات، وما كان يدخلُ إلى سورية من أسلحة وأموال وشيكات، وتشكيل التنظيمات الإسلاموية المسلحة بِدعمٍ وتمويلٍ من هذه الدولة أو تلك ( وكل شيء معروف ومكشوف) لتَأكّدنا أكثر، أن الصراع والقتال لم يكُن سوري ــ سوري من الأساس، حتى يكون الحل سوري ــ سوري..
**
لستُ بصددِ تحليل الأسباب والخلفيات التي مهّدت الطريق، وخلقَتْ المبررات للمظاهرات والاحتجاجات في آذار 2011 ، ولا بِصددِ الحديث عن أسبابها الذاتية والموضوعية، وهي كثيرة، وعن تأثُرِّها بِما حصلَ في تونس ومصر وليبيا بشكلٍ رئيسٍ.. ولستُ بصدد تفنيد البُعد الطائفي والمذهبي الذي اتّخذتهُ منذ البداية في بعض المناطق ( وأقولُ في بعض المناطق) حيث كانَ الخطفُ على الهوية المذهبية والدينية.. وحى لا يكونُ الكلام إنشائيا فسأضربُ أمثلة عِشتها بنفسي، فقد تمّ اختطاف ابن أخي منذ الشهر الحادي عشر في العام 2011 على هويتهِ المذهبية، وهو في طريقهِ إلى القرية في سهل الغاب، بهدفِ المبادلة عليه، وحتى اليوم لا نعرفُ له أثرا، مع أنه لم تكُن له علاقة بكل الدولة، وكان يعمل في شركة خاصة.. وكذلك تمّ اختطاف أحد أصهارنا وزميليهِ عن الطريق العام بعد مدينة دمشق عام 2014، وهو محامٍ لا علاقة له بكل الدولة، ولا لِزميليهِ، وبقُوا في سجن “جيش الإسلام” حتى نيسان 2018 بعد استعادة الغوطة)..
لستُ الآن بصددِ تفنيد كل ذك، كما أشرتُ، وإنما فقط بصددِ تفنيد مقولة أنّ الحل سوري ــ سوري..
**
مَن ينسى تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون في العام 2012 حينما طلبت من التنظيمات المُسلّحة عدم إلقاء سلاحها؟. ولم يكُن حينها عدد المسلحين يتجاوز الثمانية آلاف، حسب التقديرات..
**
الحلُّ ، للأسف، سقط من أيدي السوريين منذ دخول أول بندقية أجنبية إلى سورية، ومنذُ إرسال أول شيكٍّ عربيٍ وأجنبيٍ إلى التنظيمات المُسلّحة، ومنذُ تدفُّق المقاتلين عبر الحدود التركية، مع كافة الآليات العسكرية والمدنية، ومنذُ دخول المقاتلين من كل أصقاع العالم: من أوروبا ودول المغرب العربي والمشرق العربي وآسيا الوسطى، وأفغانستان والباكستان.. الخ..
على من تقعُ مسؤولية كل ذلك، فهذه مسألة جدلية أيضا..
**
صحيحٌ أنّ الصراع بدأ داخل سوريا، ولكنه سُرعان ما تحوّل بِسرعة البرق إلى صراعِ على سورية، والجغرافية السورية، وتحولت الأراضي السورية إلى ميدانٍ وحلبةٍ لِنيلِ كل دولة أقصى ما تستطيع من مكاسب ومغانم في سورية، على حساب وحدة أراضي سورية وشعبها وثرواتها.. وهكذا تشتّتَ السوريون بين كل هذه الدول.. وتبدو اليوم كل دولةٍ منها راضيةٌ بِقِسمتها، ومُتمسِّكةٌ بها، وليس بالحل وفق القرار 2254 الذي لا يَملُّون من الحديث عنه.. فالحل سوف يسحب من بينِ أيديهم، ومن تحتِ أرجلهم، كافة مكاسبهم، وهذا لن يقبلوهُ لو فنيَ شعب سورية وتمزّقت سورية إربا إربا.. مصالحهم فوق كل شيء وآخر همومهم هو شعب سورية ووحدة أراضيها ( ولا أستثني منهم أحدا) ..
**
ما بين عامي 2012 و2017 ، عُقِدت ثمانية مؤتمرات، أو لقاءات، في جنيف بشأن الأزمة السورية، وكان المؤتمر الأول في حزيران2012 عبارة عن مجموعة عمل مؤلّفة من أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين (الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا) إضافة إلى ألمانيا وتركيا وما يُعرَفُ بِجامعة الدول العربية..
تحدّثوا عن مرحلة انتقالية، ولكنهم لم يتّفقوا على مبادئ ومعاني ” المرحلة الانتقالية” .. لم يكُن أي طرف سوري حاضرٌ معهم.. وكان أولئك هُم من يُقرِّروا بالنيابة عن السوريين..
**
أولُ مؤتمرٍ جمعَ بين الأطراف السورية عبر الوساطة الدولية، كان في جنيف في شباط 2014 ، ثمّ تلتهُ لقاءت غير مُباشرة بِوساطة دولية حتى العام 2017 (مسار جنيف)، ولكن ليس السوريون من كانوا يُرتِّبون تلك اللقاءات، حتى نقول أن الحل سوري ـ سوري.. بل لم يتحدّث السوريون مباشرة مع بعضهم البعض وهُم بذات القاعة، إلا عبر الوسيط الدولي..
**
جولات مسار آستانة بلغت 15 جولة منذ العام 2017 وحتى شباط 2021 ، لم يُرتِّبها السوريون، حتى نقول أن الحل سوري ــ سوري..
وكذلك مؤتمرات سوتشي، ومسار اللجنة الدستورية، فكلُّ ذلك كان بقرارات غير سورية، ولذلك من الصعبِ أن نقول أن الحل هو سوري ــ سوري..
ومؤخّرا طالعونا بمسار جديد وهو مسار ” الدّوحة” الذي يضمُّ روسيا وتركيا وقطر.. وعُقِدت جولتهُ الأولى في الدّوحة في 11/ 3/2021، حيثُ قال وزير خارجية تركيا ” جاويش أوغلو” في المؤتمر الصحفي المشترك ( قرّرنا مواصلة الاجتماعات المُشتركة مع قطر وروسيا لبحث الملف السوري، والاجتماع المُقبل سيُعقَد في تركيا)، وطبعا سيكون بعدهُ في موسكو، فأين هم السوريون من هذا المسار الجديد؟.
بل يُمكن أن نُضيفَ إليها المسار الروسي ــ الإسرائيلي، حيثُ التنسيق قائمٌ منذ عدة سنوات، وقد كشفَ ذلك بوضوح وزير الخارجية الروسي لافروف في مؤتمره الصحفي مع وزير خارجية إسرائيل أشكنازي في موسكو في 17/3/2021 ، حيث صرّح قائلا خلال المؤتمر الصحفي:
(فيما يتعلق بسوريا، لدينا موقف مشترك من تسوية سياسية على أساس المبادئ المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254، وأكّدنا دعمنا الأساسي لسيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها..)..
مُضحِكٌ أن ” إسرائيل” تدعمُ سيادة سورية ووحدة وسلامة أراضيها، بينما هي تحتلُّ الجولان السوري، وقبل زيارة أشكنازي بليلةٍ فقط إلى موسكو كانت طائرات إسرائيل تقصف في ريف دمشق..
والمُستغرب أيضا هو تصريح لافروف خلال المؤتمر الصحفي مع أشكنازي، حينما سُئِلَ عن موقف موسكو من الغارات الإسرائيلية على سورية، فأجاب: ( إن تل أبيب تحافظُ على حقها في الدفاع وحماية أمنها) .. أي أنّ كل اعتداءات إسرائيل على سورية هي دفاعٌ عن النفس..
هذا الموقف من الوزير لافروف ينسف كل الشكاوى التي تتقدّمُ بها الخارجية السورية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس مجلس الأمن الدولي، عن الاعتداءات الإسرائيلية، وكأنها غير مُبرّرة لأن إسرائيل هي في حالةِ الدفاع عن النفس وليس العدوان..
وقابلَ الوزير الإسرائيلي هذه الغيرة الروسية بإعرابهِ، خلال المؤتمر، عن تقديرِ تل أبيب بشدّة لـِ (موقف الرئيس فلاديمير بوتين وقيادة الاتحاد الروسي في دعمهما لإسرائيل، والالتزام العلني بأمنِ إسرائيل الذي تمّ التعبير عنهُ مِرارا وتكرارا في مُختلَفِ المحافِل.. ) .. أي أنّ موسكو تُزايد على واشنطن في دعمها لإسرائيل وأمنِ إسرائيل.. وهذا الكلام الذي صدر عن الوزير لافروف والوزير أشكنازي خلال مؤتمرهما الصحفي، هو بِرسمِ ” محور المقاومة” الذي يستند ويراهنُ على دعم موسكو في نضاله ضد إسرائيل..
**
المبعوث الأممي ( غِيربيدرسون) كان الأكثرُ صراحة في بيانهِ أمام مجلس الأمن الدولي يوم 15/3/2021 حينما قال: ( أن النزاع في سورية نزاعٌ دوليٌ.. وأن الحل في أيدي الفاعلين الدوليين وليس بالضرورة بأيدي السوريين وحدهم..وأكّدَ أنه لا بد وأن بعض السوريين يشعرون أحيانا أنهم عالقون في نزاعٍ دوليٍ لا نهاية لهُ)..
وهذا كلامٌ صحيحٌ، فنحنُ فِعلا نشعرُ أننا في صراعٍ دوليٍ مزّق سورية، وقطّعها إربا إربا، وليس من السهلِ استعادة وحدة أراضيها وشعبها.. لأن كل ذلك بات رهينة لمصالح تلك الدول..
**
وقد غمَزَ بيدرسون في بيانه، من قناة الحكومة السورية حينما قال: (منذُ عشر سنوات قُمِعت مظاهرات شعبية سلمية بالعنف، وزجّت سورية في دوّامةِ نزاعٍ مسلحٍ، عندها دخلت العديد من الدول ومُقاتِلون من كل أنحاء العالم للمشاركة بالقتال بشكل أو بآخر..) .. وهو في كلامهِ هذا يلقي بالمسؤولية على الحكومة السورية بشكلٍ واضحٍ..
**
ذاتُ الجدلية وذات الخلافات، منذ أول مؤتمر في جنيف في حزيران 2012 حول مفهوم المرحلة الانتقالية، ما زال قائما، حتى بعد صدور القرار 2254 في كانون أول 2015 ، فكان لكلِّ طرفٍ أو دولةٍ تفسيرها الخاص لهذا القرار، وواظبَ الجميع على تفسيراتهم المُختلِفة والمتناقِضة.. وهكذا لم يحصل أي تلاقٍ ولا اتفاقٍ على الحل حتى اليوم، ولا يُوجدُ بصيصُ أملٍ يجعلُ السوريين يتفاءلون بِمستقبلٍ قريبٍ لنهاية معاناتهم ومآسيهم الاجتماعية والمعيشية..
المسألة أشبهُ بحديثِ المسلمين عن الإسلام، فكلُّ طائفةٍ ترفعُ لواء الالتزام بالإسلام، ولكن لكلٍّ منها مفهومها الخاص بها الذي يتناقض مع مفهوم الآخر.. وهكذا لم تلتقي هذه الأطراف منذ 1400 سنة وحتى اليوم..
**
عشرُ سنواتٍ انصبغت بلون الدم، ويمكِنُ تسميتها بالعُشريةِ الحمراء والسوداء، بعد أن تحوّلت في سنواتها الأخيرة إلى أيامٍ مُظلِمة كالحة، حيثُ كابوسُ الغلاء الفاحش والدخل المحدود جدا، والفقرُ والعَوَزُ حتى الجوع، والحرمان من أبسطِ وأهمِّ مقومات ومتطلبات الحياة والمعيشة، وحياة الذل في الطوابير، طوابير البشر أمام الأفران، وطوابير السيارات في محيطِ الكازيات لِعدّة كيلومترات..
**
حروبٌ داخلية كثيرة، لا تُحصى، وقعت عبر التاريخ، في أوروبا وأفريقيا وأمريكا وآسيا، ولكن الحرب في سورية كانت من بين أسوا خمسة حروب داخلية في التاريخ، برأي المؤرخين، وهي :
الحرب الأهلية الرومانية العظمى، والحرب الأهلية الإنكليزية، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الأهلية الروسية، وخامسا الحرب في سورية التي انخرطت فيها دولٌ عديدة إقليمية ودولية، مما زادها دموية وتعقيدا ووحشية وعُنفا.. واختلط فيها الحابلُ بالنابل..
**
من يأكلُ العِصي ليس كمَن يعدُّها.. عموم الشعبُ وحدهُ هو من يأكل العِصي..ليست الدول المُتدخِّلة من الخارج، وليست الطبقة الثرية والنافِذة والمُتحكِّمة مِنَ الداخل..
فمتى الخلاص؟.. سؤالٌ على لسان كل سوري داخل الوطن، وخارج الوطن.. فهل من مُجيب؟.
كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق
سيرياهوم نيوز 6 الرأي اليوم