ابراهيم الأمين
شكّل انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للبنان، بداية فصل جديد في تاريخ البلاد. فقد كان المرشح الوحيد الفعلي المدعوم من الوصايتين الأميركية والسعودية. غير أنّ الهوامش السياسية التي كانت متاحة لدى بقيّة القوى السياسية قبل الحرب الإسرائيلية، لم تكن كافية لضمان نجاح وصوله إلى الرئاسة.
هذه الهوامش شملت اعتراضات من قوى بارزة، مثل ثنائي حركة أمل وحزب الله من جهة، والتيار الوطني الحر وبعض المستقلّين من جهة أخرى. وقد حاولت هذه الأطراف القيام بمناورة واسعة بدعم مباشر من قطر، إلا أنّ كل هذه الجهود انهارت مع الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار. وما هي إلا أيام قليلة، حتى سقط النظام السوري بسرعة مفاجئة، وكان لهذا الحدث الدور الحاسم في إخضاع لبنان لسياسة خارجية جديدة.
في لقاء بقي بعيداً عن الأضواء، حطّت طائرة سعودية آنذاك في مطار بيروت الدولي، لتقلّ العماد عون إلى السعودية. ولدى وصوله، استقبله رجل أسمر قدّم نفسه قائلاً: «أنا الأمير يزيد بن فرحان، المستشار الأمني في الديوان». ركب الرجلان السيارة متّجهين نحو أحد القصور، حيث كان في انتظاره خالد بن سلمان، وزير الدفاع وشقيق ولي العهد محمد بن سلمان.
وفي أثناء ساعات قليلة، سمع عون كلاماً مباشراً وواضحاً: الرياض وواشنطن وبقيّة الأطراف الإقليمية اتّفقت على اختياره رئيساً للجمهورية. كان الكلام عاماً، لكنّ الجانب السعودي بدا مهتمّاً بطمأنة عون بأنّ المسعى القطري أُغلق تماماً، وأنّ الرئيس نبيه بري في طريقه إلى تبنّي ترشيح قائد الجيش، وأنّ بقيّة القوى السياسية سيجري التعامل معها وضبطها إذا استدعى الأمر، بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
كان عون يدرك أنّ النقاش لا يقتصر على عدد الأصوات فقط، بل على ضرورة تنظيم تسوية تجعل انتخابه يحظى بأوسع إجماع ممكن. وفي الوقت نفسه، لاحظ أنّ ابن فرحان، في أثناء الاجتماع، تعمّد الحديث في تفاصيل توحي بمعرفته العميقة بالملف اللبناني، للتأكيد أنّ السعودية تعرف الكثير عن قائد الجيش.
كذلك سمع عون لاءات سعودية حاسمة: لا مكان لحزب الله في الحكومة الجديدة، ولا مجال لأي علاقة مع سعد الحريري أو تياره، ولا إمكانية لتعويمه، كما أنّ جبران باسيل وسليمان فرنجية لن يكون لهما مكان في الحكومة الأولى. إلا أنه، بحسب ما نُقل لاحقاً، لم يُشهر أي فيتو على اسم الرئيس نجيب ميقاتي.
مع عودته إلى بيروت، كان على قائد الجيش البدء بمحادثات مكثّفة وسريعة مع حزب الله، والعمل على إيجاد مخرج لأزمة الاجتماع الضروري مع قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع، مع الإشارة إلى أنه أبلغ السعوديين مسبقاً بأنه لن يزور جعجع في منزله، حتى لو قرّر الأخير التصويت ضدّه. ولذلك، طرح الجانب السعودي مخرجاً بترتيب لقاء في منزل السفير السعودي في اليرزة، بين عون والنائبة ستريدا جعجع، للاستماع إلى مطالب القوات اللبنانية. ورغم أنّ بعض مساعدي عون اعتبروا أنّ اللقاء سيكون بلا جدوى إن لم يحضره سمير جعجع شخصيّاً، كان عون يدرك أنّ قائد القوات هو من سيأتي في النهاية، وهذا ما حصل بالفعل.
في الاجتماع، لم يبدُ جعجع في دور المحاضر في التاريخ السياسي، بل ذهب مباشرة إلى المقايضة: حصة وازنة للقوات في الحكومة، ودور أساسي في التعيينات المسيحية. ثم انتقل إلى مطلبه الأهم موجّهاً كلامه إلى الوسيط السعودي: «أريد تعهّداً منه، أمامكم، بأنه لن يسعى إلى تشكيل حزب سياسي، ولا إلى خوض الانتخابات النيابية عبر مرشحين يتوزّعون في عدد من المناطق».
عون، الذي لا يحبّ جعجع أساساً، لم يكن في وارد فتح معركة جانبية. فكما سبق أن وعد الأميركيين بأنّ ملف سلاح حزب الله يمكن إنهاؤه في أثناء ثلاثة أشهر، ووعد السعوديين بأنه سيتجنّب التحالف مع الحزب، لم يرَ مشكلة في إضافة تعهّد جديد يرضي جعجع. وهو، رغم قلّة خبرته في دهاليز السياسة اللبنانية، كان يدرك تماماً طبيعة الوعود التي تطلقها القوى الداخلية في مواسم الانتخابات النيابية أو الرئاسية أو عند تأليف الحكومات. وما كان يعنيه فعلياً هو ضمان وصوله إلى الرئاسة من دون معارضة جدّية، وأنّ موقعه كـ«رجل أمن» سيمنحه اليد الطولى في التعيينات العسكرية والأمنية كافة. وفوق ذلك، كان يعي أنّ الرئاسة، في عهدٍ يُعاد تشكيل معادلاته الإقليمية والدولية، ستكون المنبر الأساسي لإعادة ضخّ الدم في علاقة لبنان مع العرب والغرب.
قدم جوزاف عون تعهّدات للأميركيين والسعوديين وجعجع تصبّ كلّها في خدمة هدف واحد: إبعاد حزب الله وحلفائه عن الحكومة والمجلس النيابي ونزع سلاح المقاومة
ما جرى بعد الانقلاب على تسمية نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، لم يعرفه عون إلا في الساعات الأخيرة. وتبيّن لاحقاً أنّ الفكرة برمّتها كانت من تدبير فرنسا والسعودية، فيما لم يعارض الأميركيون تشكيل حكومة تعطي صورة مغايرة تماماً لما كان قائماً. وانجرف نواف سلام، الذي يُفترض أنه أكثر إلماماً من عون بتفاصيل السياسة المحلّية، بدوره إلى تسويات اللحظات الأخيرة، مقدّماً وعوداً لجهات عدّة لحشد الأصوات له، سواء في مسار التكليف أو في مسار التأليف، كالاتفاق مع النائب جبران باسيل، وعدم وضع فيتو على دخول ممثّل عن تيار «المردة»، شرط أن يكون اختيار الاسم من قبله، وهو ما طلبه من ثنائي أمل وحزب الله.
لكنّ عون وسلام أدركا، عند لحظة التأليف، أنّ الانقلاب يجب أن يكون كاملاً، وأنّ الصيغة الجديدة للحكم تقتضي أوّلاً نسف «اتفاق الدوحة». وهذا يعني إسقاط فكرة «الثلث المعطّل». عندها فهم الرجلان أنّ هذا الثلث كان السلاح الذي استخدمه حزب الله، لفرض التوازن في كل الحكومات التي تشكّلت بين 2008 و2024. ومن هنا، فإنّ تحجيم حزب الله، يبدأ بتعديل شكل حضوره داخل الحكومة، وإجباره على القبول بوزراء لا يشاكسون سياسياً. كما أنّ حرمانه من «الثلث المعطّل» يفرض تلقائياً إبعاد حلفائه، الفعليين أو المحتملين، فكان القرار بإقصاء التيار الوطني الحر أولاً، ثم تيار المردة ثانياً. وهكذا وُلدت حكومة قامت على قاعدة مفادها: لقد انتهت صلاحية «اتفاق الدوحة».
ما حصل لاحقاً هو أنّ الوصيّ الأميركي – السعودي لم يكن يمتلك وصفة جاهزة كبديل. لذلك لجأ الطرفان إلى اعتماد صيغة هجينة. فمن جهة، فهم نواف سلام أنه غير معنيّ بملف المفاوضات الخارجية مع إسرائيل، وأنّ الملفين الأمني والعسكري خارج نطاق صلاحياته أيضاً، فترك أمر التعيينات المتصلة بهما للرئيس عون. وحتى في وزارة الداخلية، لم يأتِ المرشحون من جانب سلام بل من جانب عون نفسه، والأمر تكرّر في وزارات أخرى.
لكنّ المفاجأة بالنسبة إلى سلام، كانت في اكتشافه أنّ الوصاية الجديدة لا تمانع إعادة بعض صلاحيات رئيس الجمهورية إلى عون، ولو عرفاً. ولأنّ سلام لم يفهم المغزى منذ البدء، جرى إفهامه الأمر بصورة قسرية عند اختيار كريم سعيد، حاكماً لمصرف لبنان. أمّا باقي الملفات فبقيت معلّقة للإدارة اليومية، ما أظهر سريعاً حجم التباين بين الرجلين، لولا أنّ الصفّارة السعودية كانت مرتفعة بما يكفي لمنع أي صدام حقيقي بينهما، فيما كان سلام يحاول تسجيل موقف في الملفين الاقتصادي والمالي.
مع مرور الوقت، تبيّن للجميع أنّ التغييرات في البلاد لم تتّخذ الشكل الذي تصوّره الأميركيون والسعوديون، ولا حتى ذاك الذي افترضه كثيرون في الداخل. فجأة، وفي أقلّ من مئة يوم، اتّضح أنّ حزب الله لم ينهَر، وأنّ القوى التي جرى تهميشها لا تزال حاضرة بقوة في قلب المشهدين السياسي والشعبي. واستمرّ السجال على هذا النحو إلى أن حلّ موعد الانتخابات البلدية، وهناك أدرك طرفا الوصاية من جهة، والرئيسان عون وسلام من جهة أخرى، أنّ طبيعة التمثيل السياسي في البلاد لم تتبدّل إطلاقاً عمّا كانت عليه قبل الحرب. وبناء على ذلك، بات واضحاً أنّ الصيغة الجديدة للحكم تحتاج إلى حماية أكبر، وإلى مبادرة من نوع مختلف تماماً.
وإذا كان الجميع يُبدي خشية كبيرة من طرح المشكلات الوطنية على طاولة النقاش، فإنّ الأسهل بالنسبة للأميركيين والسعوديين كان حصر المشكلة في بند واحد اسمه: سلاح حزب الله. وهو ما سهّل المهمة على جميع القوى السياسية المعادية للمقاومة. فقوى مثل «القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الاشتراكي، إضافة إلى الشخصيات السنّية المستقلّة وكتلة التغييريين، وجدت نفسها في حال ارتباك كبير، لأنها لا تملك إجابة عن السؤال المتعلّق بالصيغة الجديدة للحكم في لبنان. وهكذا انخرط الجميع في لعبة نزع السلاح، إلى أن تحوّل الأمر إلى عنوان أساسي للانقسام الداخلي.
في أثناء كل هذه المدّة، اعتمد حزب الله سياسة الحدّ من الخسائر، وكان منذ اليوم الأول منشغلاً بمهمّة بإعادة ترتيب أوضاع المقاومة وتشكيلاتها وقدراتها، في ظلّ استمرار الحرب الإسرائيلية ضدّه. ورغم الضغوط الهائلة الناتجة عن الخسائر الاقتصادية المباشرة للحرب، وانضمام نحو خمسة آلاف عائلة إلى «مؤسسة الشهيد» ودخول آلاف آخرين ضمن برنامج معالجة الجرحى، لم يكن الحزب في وارد الانخراط في سجال داخلي قد يضرّ بخطّته الاستراتيجية. وبذلك، تجنّب الحزب أيضاً مواجهة استحقاق السؤال: أي صيغة جديدة للحكم في لبنان؟
عملياً، وبعد مرور عام على بدء عصر الوصاية الأميركية – السعودية الكاملة على لبنان، يقف البلد على مفترق طرق. إذ لا يوجد توافق فعلي على صيغة الحكم القائمة، ولا أفق لحلّ مشكلاته الاقتصادية والمالية، فيما الحرب الإسرائيلية تتقدّم خطوات إلى الأمام. وفوق ذلك، يطلّ الخطر الأكبر من الشرق، حيث النار السورية التي همدت داخل أسوار دمشق تعود إلى الظهور من جديد، مرفوعة باليد الأميركية، لتُهدد لبنان، ليس بوصاية جديدة، بل بأتون من الحروب الأهلية، التي تعتبرها إسرائيل خطوة إلزامية لضمان نجاح الجولة الجديدة من حربها على المقاومة.
* غداً: من أيقظ أحلام اليمين اللبناني من جديد؟
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
