آخر الأخبار
الرئيسية » عربي و دولي » هل تراجع روسيا استراتيجتها في الشرق الأوسط؟

هل تراجع روسيا استراتيجتها في الشرق الأوسط؟

 

سمير التقي

 

 

بعد كل تصرّفٍ منحازٍ وأحمقٍ تنزلق إليه الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، تتحضر الديبلوماسية الروسية لتصطاد في المياه الأميركية.

 

في العقد الماضي، وإثر “الربيع العربي”، وبعد فشل المقاربتين الأميركية والأوروبية في إدارة الوضع الإقليمي، فَوَّض الغربُ روسيا أمرَ ضبطِ توازنِ الإقليم بالانطلاق، سواءً عبر صفقاتها مع تركيا أو سوريا أو حتى مع إسرائيل، واستخدمت روسيا المنصّة السورية لتقوم بذلك الاستخدام الفظّ والكاسح للقوة ضد المدنيين، مقابل أن تلتزم روسيا تقسيم العمل المتفق عليه في اتفاقيات “سوتشي” و”القدس”، وبإشرافٍ أميركي وثيق.

 

لكن، بعد التدخل الروسي في سوريا، اكتشف الغرب متأخراً أن الرئيس الروسي بوتين المتمرد لا يلعب وفق قواعد واشنطن، بل يدخل من شقوق الفشل الأميركي ليُربك اللعبة ويُعيد ترتيب الأوراق، ثم يفرض نفسه — كما في خمسينيات القرن الماضي — وسيطَ قوةٍ ضروريًّا في الشرق الأوسط. فلقد ثبّتت روسيا قواعدها العسكرية، وصارت موضوعيًّا وسيط القوة الحاكمة للتوازنات بين دول الإقليم، وحتى بين “زعرانه”.

 

أطاح غزو أوكرانيا هذا المشروع بعدما قررت أوروبا أن “تبرد” لسنين على أن تشتري الطاقة من تحت إبط روسيا. ونجم عن ذلك انقلابٌ تامٌّ في تقسيم العمل بين روسيا والغرب، لتصبح أوروبا — وليس الشرق الأوسط — الحلقةَ الرئيسة في الصراع الدولي.

 

كان يُفترض بالحرب الأوكرانية أن تنتهي في أسابيع، لكنها أفرزت عواقب استراتيجية سلبية وطويلة الأمد بالنسبة لروسيا. فإضافةً إلى تطويقها شمالًا وجنوبًا بحلف الأطلسي، وتضييق هوامشها الاستراتيجية، خسرت روسيا في الشرق الأوسط رهانها الذي رسمت خطوطه النهائية في “سوتشي” مع تركيا، والذي كان يمكن أن يحوِّل البلدين إلى شريكين استراتيجيين في نقل الطاقة من وسط آسيا عبر جيهان – تركيا نحو أوروبا، ليكون بديلاً يسمح بسحب تركيا من التحالف الغربي والاتحاد الأوروبي.

 

وبعد مغامرة السابع من أكتوبر، تغيّر السياق الاستراتيجي بأكمله في الشرق الأوسط أيضاً! لم تعد إسرائيل تقبل بتفويض وسطاء القوة في الإقليم لضبط حربها الباردة مع إيران، بل صارت تُسوِّي الأمور بيدها. وإضافةً إلى ذلك، خسرت روسيا بعد السابع من أكتوبر سوقًا واسعة للسلاح، وطاقماً كاملاً من حلفائها، وحلفاء حلفائها.

في سوريا، وعدت روسيا أن تكون حلب “غروزني الثانية”، ونجحت في تدميرها، لكنها لم تنجح في إعادة إعمارها كما فعلت في غروزني. ثم جاءت نقلة “كش ملك” بهزيمة نظام الأسد البائد، فما انهار معه هو أهمُّ رصيدٍ استراتيجيٍّ متبقٍّ لروسيا في الشرق الأوسط، ألا وهو الجيش السوري. وصارت القواعد الروسية في سوريا مكشوفة أمام أي هجوم بري، بل في مهبّ الرياح الإقليمية. وتدرك روسيا أيضًا أن أوكرانيا لعبت دوراً رئيسيّاً في تزويد “هيئة تحرير الشام” بالمسيّرات، وما أدراك ما فعلت المسيّراتُ البحرية الأوكرانية بأسطول البحر الأسود الروسي!

 

لحقتها بعدئذ الحربُ الخاطفة بين إسرائيل وإيران، لتقطع الانعطاف الإيراني نحو روسيا. وبذلك، لم تخسر روسيا هوامش مناورتها مع تركيا فحسب، بل أثبتت إسرائيل — من جديد — بعربدتها المتغطرسة على الخاصرة الرخوة في القوقاز أنها لن تكون إلا ذراعاً طُولى للغرب وللولايات المتحدة، فيما أثبتت التجربة من جديد أنه عند الجدّ (غزة، وسوريا، وإيران، واليمن) لم تتمكن روسيا من اختراق الصراعات الإقليمية ولا تقديم بديل سلمي ولا التدخّل بشكلٍ حاسمٍ لصالح حلفائها، لا في أرمينيا ولا في سوريا وإيران وتركيا.

 

ولم تقف الأمور عند سحب التفويض الغربي لروسيا في الإقليم، بل يقدم مشروع ترامب في عمارته الاستراتيجية المقترحة حلاً لأزمة غزة لا يستبعد روسيا والصين فحسب، بل حلاً لا يترك لأوروبا والأمم المتحدة إلا مقاولات التنفيذ في علميات دعم التعافي والاستقرار، إذ ترغب أميركا في أن تصبح هي ذاتها وسيطَ القوة المتفرِّد في الإقليم. ورغم أن كل هذا الكلام لا يزال حبراً على ورق، لكنه مهم كونه يُظهر النوايا الأميركية الحقيقية.

 

كنتُ أعرف في روسيا بعضاً من أعظم الاستراتيجيين المخضرمين، لكن لم تَعُد لدي فكرة عن جيلهم الجديد. لكني واثق أنهم يدركون مغزى هذه التحولات. فثمة مراجعات عميقة لمجمل الاستراتيجية الروسية على المدى الطويل. وتأخذ هذه المراجعات في الاعتبار حقائقَ أثبتتها التحولات الهائلة!

 

يكمن العيبُ الجوهري في الاستراتيجية الروسية في جنوحها نحو التوافقات الأمنية والصفقات العابرة مع “الأوليغارش”، بدلًا من الرهان على قوى الإنتاج والتنمية. ففي إقليمٍ عاصفٍ كالشرق الأوسط، وفي مناخٍ باتت فيه الحوكمةُ وحسنُ الإدارة محورَ النجاحِ الاستراتيجي لأيِّ تحالف، لا تنفع الاتفاقاتُ البراغماتيةُ ولا الصفقاتُ العابرة مع “الأوليغارش” في بناء تحالفاتٍ مستدامةٍ لروسيا، إذ تُقتلع جذورها الهشّة عند أول ريح، لتصبح وبالًا وخسارةً عليها.

 

ويكمن العيب الثاني في أن روسيا لا يمكن أن تبني استراتيجيتها الجديدة في الإقليم على مجرد ملء الفراغ الذي تخلِّفه العثراتُ والحماقاتُ الدوريةُ للولايات المتحدة، سواء تجاه تركيا، أو سوريا، أو المملكة العربية السعودية، أو الإقليم ككل. فلأكثر من ثلاثة عقودٍ، لجأت الاستراتيجية الروسية إلى تحالفاتٍ براغماتيةٍ قلقةٍ وغير مستقرةٍ مع الجميع… مع كلٍّ من إسرائيل وتركيا وإيران ودول الخليج، وسوريا بالطبع. وكما يتبيّن من تجربة “سوتشي” ومنظومة S-400 التركية، لا يمكن بناء منظومةٍ استراتيجيةٍ طويلة الأمد على تعهّداتِ الأشخاص أو على المشاريع العابرة.

 

وفيما تبدو إعادةُ تفويضِ روسيا بالإقليم أمراً غير واردٍ على الإطلاق، وفيما تتفكّك العولمةُ ليبزغَ عالمٌ متعددُ الأقطاب، وفيما تُعاد هيكلةُ العماراتِ الإقليميةِ في العالم، تبرزُ فرصةٌ استراتيجيةٌ حقيقيةٌ لروسيا شرط إعادة هيكلة مصالحها وتحالفاتها في الإقليم، بالمراهنة على أن تكون قوةَ استقرارٍ لا عبر القصف، بل عبر التحالف مع القوى الجديدة الصاعدة، المتطلعةِ إلى السلام، والحوكمة، والتنمية الحقيقية، والاستقرار.

 

فهل تستطيع روسيا أن تقدّم بديلاً واعداً في مجالات الحوكمة والتنمية لعديدٍ من دول الإقليم المتداعية؟ وهل تستطيع أن تقدّم للإقليم بديلاً تنموياً عن تسييد إسرائيل وانحياز الغرب وتفرّده؟ وهل يمكنها أن تُنتِج استراتيجيةً جديدةً متكاملةً تُناسب خيارَ العرب ودول الخليج خاصة في سلامٍ منصفٍ، والاستقرار والتنمية؟ وهل تستطيع أن تقدّم خياراً غير التدخّل العسكري وقطعِ تبديل الكلاشنيكوف؟ يحتاج بعض هذه الأسئلة مراجعات عميقة لبنية الاستراتيجية الروسية ورؤيتها لمصالحها.

 

(أخبار سوريا الوطن1-النهار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترامب يقول انه سيتخذ قرارا بشأن الإفراج عن مروان البرغوثي ويعتبره “الشخصية القادرة على توحيد الفلسطينيين خلف حل الدولتين” ويحذّر إسرائيل من خسارة دعم واشنطن إذا ضمّت الضفة الغربية

قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنه سيقرر ما إذا كان سيدفع باتجاه الإفراج عن القيادي الفلسطيني مروان البرغوثي، الذي تعتقله إسرائيل منذ 23 عاما، والذي ...