الدكتور رجب السقيري
في مقالي المنشور في هذه الصحيفة يوم الاثنين الماضي تطرقت إلى مسألة ترحيل اللاجئين السوريين عنوةً من تركيا وقذفهم في الشمال السوري وتركهم تتقطع بهم السبل ومنعهم من العودة إلى تركيا ، وبينت كيف تقوم المعارضة التركية بذلك عن طريق أدواتها في الدولة العميقة ، وكان زعيم المعارضة “كمال كليجدار أوغلو” قد وعد ناخبيه في بداية صيف هذا العام بأن يقوم بترحيل اللاجئين السوريين من تركيا خلال سنتين ، رغم أن عددهم يتجاوز ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجيء ، كما أكد أن دولاً أوروبية قد وعدته بمساعدته في تغطية تكاليف ترحيلهم . بينما قال أردوغان خلال الحملة الانتخابية أنه يريد ترحيلهم طواعية. تحدث المقال بشكلٍ رئيس عن حملة الكراهية تجاه السوريين بسبب ما يعتقده الأتراك من مزاحمة اللاجئين السوريين لهم في أرزاقهم ، وأدى ذلك إلى تعميم هذه العنصرية لتشمل كل العرب سياحاً ومقيمين . واختتم المقال بالسؤال عن سبب صمت أردوغان رغم أن بيده مقاليد الحكم وبإمكانه وقف ترحيل السوريين عنوةً ووقف الممارسات العنصرية ضد العرب .
مواقف الأطراف المعنية إزاء ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا
يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية Matthew Miller “ماثيو ميلر” أن ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا يجب أن يكون طوعياً وبالتنسيق مع مفوضية الأمم المتحدة للاجئين UNHCR ، ويضيف بأن الظروف لا تسمح بعودة منظمة للاجئين السوريين على نطاق واسع . رغم ذلك نجد أن واشنطن تغض الطرف عن الترحيل القسري الذي يجري حالياً ، أما الرئيس التركي أردوغان فقال في خطاب فوزه بالانتخابات في أيار/مايو الماضي أن ستمائة ألف لاجيء سوري قد عادوا طوعياً إلى مناطق آمنة في سوريا ، كما قال وزير الخارجية التركي أن الاجتماع الرباعي لوزراء خارجية سوريا وتركيا وروسيا وايران خلال أيار/مايو الماضي قد قرر “إعداد البنية التحتية لعودة السوريين بشكلٍ طوعي وآمن ومشرف” ، أما وزير الداخلية التركي فقد قال في لقاء مع الجزيرة قبل حوالي أسبوعين أن “الحكومة التركية تطبق ما تقتضيه القوانين من أجل أمننا ومنها تدابير إعادة اللاجئين غير النظاميين لبلدانهم” .
من ناحية أخرى ، لا بد من الإشارة إلى موقف الرئيس السوري الذي يطالب بجدول زمني لانسحاب الجيش التركي من المناطق التي يحتلها في شمال سوريا قبل عودة اللاجئين إليها . أما عن تطبيع العلاقات السورية التركية والاجتماعات الرباعية التي شاركت فيها تركيا وسوريا وروسيا وإيران فلم ينجم عنها أية نتائج ملموسة حتى الآن سوى بيانات تدعو إلى وضع خارطة طريق لتطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا والعمل على إعداد البنية التحتية لعودة اللاجئين ، إضافة إلى مكافحة الإرهاب والحفاظ على سيادة واستقلال سوريا ووحدة أراضيها .
ما الذي يجري على أرض الواقع ؟
واضح أن مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم مسألة في غاية التعقيد ، إذ أن ما يقوله المسؤولون الأتراك وغيرهم شيء وما يحدث على أرض الواقع شيء آخر، إذ تقول تقارير صحفية أن معظم من يتم ترحيلهم تصادر منهم وثيقة اللجوء ، إن كانوا مسجلين كلاجئين نظاميين ، ويؤخذوا إلى مراكز الترحيل ويجبروا على التوقيع على إقرار بأن ترحيلهم تم بناءً على رغبتهم ، علماً بأن معظمهم لا يجيد اللغة التركية ولا يعرف على ماذا يوقع . ثم يتم ترحيلهم بحافلات ويلقى بهم عبر الحدود . أما البنية التحتية اللازمة لعودة اللاجئين فقد تحدثت الأنباء خلال شهر أيار/مايو الماضي عن تدشين وزير الداخلية التركي لمشروع بناء 240 ألف وحدة سكنية للاجئين السوريين في بعض مناطق الشمال السوري التي تسيطر عليها تركيا وفصائل متحالفة معها ، ولا نعرف حتى الآن كم من هذه الوحدات السكنية أصبح جاهزاً .
الترحيل القسري قنبلة موقوتة
نأتي الآن إلى الأسئلة الأكثر أهمية في هذا المقال وهي لماذا يعتبر الترحيل القسري للاجئين السوريين في تركيا قنبلة موقوتة ؟ وهل يقصد بها زعزعة الاستقرار النسبي الذي ساد في سوريا بعد انتهاء الحرب الأهلية؟ ولمصلحة من تقوم المعارضة التركية (من خلال الدولة العميقة) بذلك ؟ ولماذا تحرص واشنطن وحلفاؤها على تقديم الدعم لها ؟ وأخيراً لماذا تلتزم حكومة أردوغان الصمت ؟
بالنسبة لسوريا يعتبر ترحيل اللاجئين من تركيا إلى الشمال السوري قنبلةً موقوتة حيث أن معظم الذين يتم ترحيلهم قد هدمت بيوتهم ودمرت البنى التحتية في مدنهم وقراهم ، وفي ظل ما تعانيه سوريا حالياً من عجز في موارد الدولة والضغط الشديد على اقتصادها بسبب الحرب الأهلية التي استمرت لأكثر من عشر سنوات إضافة إلى هجرة الكفاءات وما خلفته جائحة كورونا من آثار سلبية على الاقتصاد السوري ، وكذلك بسبب العقوبات والحصار والاحتلال الأمريكي لحقول النفط والغاز في شرق سوريا ، الأمر الذي يعني أنه لن يكون بمقدور سوريا إعادة الإعمار أو حتى تلبية أبسط متطلبات الحياة للعائدين .
هذا إذا كان الترحيل طوعياً ، أما إذا كان قسرياً فالمشكلة قد تصبح أكثر تعقيداً إذ يمكن أن تكون الفئة الأكبر من بين المرحلين قسرياً معارضة للنظام ويتوقع انضمامها إلى الفصائل الجهادية المعارضة المتواجدة في الشمال السوري والمتحالفة مع تركيا ، أو قد تنشئ هذه الفئة فصائل معادية للنظام خاصة بها ، وفي كلتا الحالتين ستكون هذه العودة سبباً للقلق الأمني ولزعزعة الاستقرار النسبي الذي شهدته سوريا بعد انتهاء الحرب الأهلية .
هنا يمكن القول أن المزيد من زعزعة استقرار سوريا وأي احتمال لسقوط النظام هو مطلب رئيس للسياسة الأمريكية في المنطقة ويصب في مصلحة إسرائيل . أما الفوائد الأخرى التي تجنيها واشنطن من عودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى الشمال السوري فتستند جميعها إلى زعزعة الاستقرار وتتمثل أولاً في احتمال اضطرار الروس لتعزيز تواجدهم العسكري في سوريا خاصةً قواتهم الجوية الأمر الذي يخفف الضغط عن أوكرانيا ، ثانياً أن القوات الإيرانية وميليشيات حزب الله التي شاركت في القتال إلى جانب النظام السوري طوال سنوات الحرب الأهلية وسحبت جزءاً من قواتها بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، قد تعيد نشر تلك القوات للتعامل مع الوضع الأمني الجديد والمشاركة مجدداً في القتال ضد الفصائل المعادية للنظام مما سيعمل على تبديد بعض القلق الإسرائيلي من احتمالات المواجهة مع حزب الله . وربما تأمل واشنطن في حال عودة القتال في سوريا أن تعيد الدول العربية (خاصة الخليجية) حساباتها بالنسبة لتطبيع العلاقات مع الرئيس الأسد ، إذ لم تكن الإدارة الأمريكية مسرورة أبداً لاستعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية ومشاركتها في القمة العربية في جدة .
ثمة سبب آخر سياسي يمكن إضافته إلى الأسباب الواردة أعلاه التي تدفع الإدارة الأمريكية إلى تقديم الدعم للمعارضة التركية وتشجيعها للاستمرار في إعادة اللاجئين السوريين إلى شمال سوريا سواءً طوعاً أو قسراً وهو إلحاق الضرر برئاسة أردوغان والحد من “طموحات أجندته الإسلامية” ودفعه باتجاه المزيد من تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي . وقد سبق للرئيس الأمريكي بايدن أن أعلن بكل وضوح أنه سيعمل على إسقاط أردوغان “بالطرق الديمقراطية” . أما الدول الأوروبية فهي أيضاً تدعم المعارضة بهدف إسقاط ، أو على الأقل إضعاف ، أردوغان حتى لا يستخدم اللاجئين كورقة ضغط عليهم ويفتح للاجئين الباب على مصراعيه لهجرتهم غير النظامية إلى أوروبا كما فعل من قبل .
لماذا يصمت أردوغان ؟
أخيراً ، لوحظ أن أردوغان قد التزم الصمت مؤخراً على أثر تفاقم حملة العنصرية والكراهية التي تروج لها المعارضة ضد اللاجئين السوريين والتي توسعت مؤخراً وتفاقمت لتشمل كل العرب سياحاً ومستثمرين ومقيمين ، رغم ما في ذلك من أضرار بالغة على الاقتصاد التركي وعلى سمعة تركيا واحترامها للقانون الدولي ، كما التزم أردوغان الصمت إزاء قيام المعارضة عن طريق أتباعها في الدولة العميقة بترحيل أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين عنوةً وهو ، أي أردوغان ، قد أكد مراراً عزمه على إعادة اللاجئين السوريين “عودةً طوعية آمنة ومشرفة” ، حسب تعبيره ، بعد تهيئة الظروف الملائمة .
قد يكون سبب صمت أردوغان ما تعرض له الاقتصاد التركي في الآونة الأخيرة من أزمات ومصاعب تمثلت في هبوط سعر الليرة التركية بشكلٍ كبير وارتفاع نسبة التضخم بشكلٍ هائل ، ولم يكن ذلك بفعل عوامل اقتصادية طبيعية بل بفعل فاعل ، إذ أن القطب الأكبر في النظام الدولي قد شرع منذ سنوات باستعمال الضغوط الاقتصادية المنظورة وغير المنظورة ضد أنظمة الحكم التي تحاول التمرد على سياسات العم سام أو على سياسات حلفائه ، خاصةً الحليف الأقرب وهو دولة الاحتلال الإسرائيلي ، وبناءً على ذلك لا بد أن أردوغان قد أحنى رأسه وآثر السلامة ، ربما مؤقتاً، أمام العاصفة الهوجاء. ومع ذلك فقد استجمع أردوغان قواه مؤخراً وهدد بعد اجتماع حكومته مساء يوم الثلاثاء الماضي بإنزال أشد العقوبات بكل من يدعم أو يشجع الممارسات العنصرية ضد اللاجئين أو الأجانب أو حتى ضد الأتراك لأسباب تتعلق بالدين أو المعتقد أو الحجاب أو اللحية ، ونقلت عنه وسائل الإعلام قوله “لا يمكننا أن نسمح للعنصرية وكراهية الأجانب التي ليس لها مكان في تاريخنا وثقافتنا ومعتقداتنا بالانتشار في مجتمعنا “
كاتب هذه السطور يتمنى أن يقترن القول بالفعل والله ولي التوفيق .
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم