في ربيع العام 1916 اُقفل الستار على علاقة حب جارفة بين الصحفية السورية ماري عجمي، صاحبة مجلّة العروس، ومراسلها في بيروت اليوناني بيترو باولي. كانت ماري في الثامنة والعشرين من عمرها يوم أعدم حبيبها شنقاً على يد العثمانيين. رفضت الزواج من بعده، وظلّت موشحة بالسواد حتى وفاتها وحيدة بدمشق سنة 1965.
لو جرت هذه القصة في بلاد أجنبية، لتحولت إلى فيلم سينمائي أو استثمرت بشكل سياحي، مثل شرفة “جوليت” في مدينة فيرونا الإيطالية. الجميع يَعلم أن قصتها مع “روميو” لا تتعدى الخيال الأدبي الذي نسجه ببراعة المسرحي الكبير وليام شكسبير، ولكن هذا لم يَمنع بلدية فيرونا من تحويلها إلى معلم سياحي، عبر تلك النافذة الحجرية الأنيقة التي قالوا أنها كانت لجوليت، والتي يأتيها السيّاح من أقاصي المعمورة لكتابة اسمهم تحت شباكها وترك رسائل لجوليت، لم ولن تصل أبداً. وقد عُرضت مسرحية شكسبير الشهيرة للمرة الأولى في نهاية القرن السادس عشر، أما شرفة جوليت فقد نُصبت للسياح في مطلع القرن العشرين.
أقرب ما لدينا إلى تلك الأسطورة بدمشق هي صخرة “أذكريني” في مدخل منطقة الربوة. يُروى أن عاشق دمشقي انتحر من عليها بعد فشله بالزواج من حبيبته وقام بكتابة عبارة “أذكريني دائماً.” فجاءت الصبية من بعده وكتبت عبارة “لن أنساك.” مُعظم الروايات لا تحدد اسم العشاق، وهناك من ينسب قصتهم إلى شاب يُدعى محي الدين التركماني وصبية اسمها اُميمة المعصراني. لا نعرف إن كان حبهم حقيقة أم خيال، ولكنه ومن دون شك جميل ويستاهل نصب سياحي على طريقة شرفة جوليت الإيطالية. ولكن أحداً لم يهتم بصخرتهم وصرختهم إلا أصحاب المقاهي المجاورة الذين قاموا بتحبير العبارتين لكي لا تنال منهما عوامل الطقس.
فعبر تاريخها الطويل، أطلق على مدينة دمشق الكثير من الأوصاف، فقالوا أنها مدينة الخير والبركة، مدينة الشهامة والمروءة، نصيرة المحتاج والمسكين. ولكن أحداً لم يصفها بمدينة العشق والعاشقين، كما وصفوا مثلاً شقيقتها الصغرى بيروت. ويعود ذلك طبعاً لأن دمشق لم تُعرف يوماً بعشاقها نظراً لطبيعة مجتمعها المحافظ.
هذا لا يعني أنها كانت خالية من قصص العشق، ولكن الكثير منها تم وأدها ونسيانها، أو بقيت مطويّة خلف جدران مُحصنة، لا تخرج الى العلن الا فيما ندر. فأهالي دمشق المحافظين تعلّموا أن يكتموا أسرارهم ومشوا على قاعدة أن للعين مكاناً في النفوس. فقد أحبوا بصمت، وعشقوا بصمت، ورقصوا وغنوا…أيضاً بصمت. مارسوا طقوس الحب بخجلٍ وتكتمٍ شديد، عِلماً أن مدينتهم كانت جذّابة جداً بالنسبة للعاشقين الأجانب، يجدون فيها كافة مستحضرات ولوازم الحب، من ياسمين معلّق على الجدران وحارات ضيّقة ومتعرجة لا يُنيرها إلا نثراتٍ من ضوء القمر.
ومع ذلك ظلّ الحب أمراً مستهجناً في المجتمع الدمشقي المحافظ، لا يحدث إلا في الروايات والأفلام السينماية. وحتى في الأعمال السورية، بقد ظهر الحب وكأنه شيئ مخالف للأعراف، قلما يتم تتويجه بزواج ناجح أو حياة سعيدة. نأخذ على سبيل المثال قصة “صبريّة،” بنت الشام الجميلة في رواية إلفت إدلبي الشهيرة “دمشق يا بسمة الحزن.” أحبت صبريّة الفتى عادل، ابن خباز الحارة، ولكنها لم تسطع الإرتباط به بسبب معارضة عائلتها. عندما يتم اعتقال “عادل” بوشايه من شقيقها لمنعهم من الإالزواج، تُنهي صبريّة حياتها شنقاً من على أعلى شجرة النارنج في أرض ديارها.
وصال…ونزار
دعونا نستذكر بعض قصص الحب التي عرفتها دمشق. في الذاكرة الشعبية للمدينة قصة قيس وليلى مثلاً، وجميل بثينة وحب ابن زيدون لولادة بنت المستكفي في الأندلس، ولكن ماذا عن العصر الحديث؟ ماذا عن آخر 100 سنة؟ أيعقل أن مدينة دمشق لم تنتج قصة حب واحدة يتباهى بها العشاق؟ معظم الناس سيشييرون فوراً إلى نزار قباني وزوجته العراقية، مرددين أبياتاً من قصيدته العصماء، ولكن قصة الشاعر الدمشقي مع بلقيس ولِدت في بغداد وذُبحت في بيروت، وليس في دمشق.
ومن المعروف أن شقيقة نزار الكبرى “وصال” إنتحرت في صباها، تماماً كما فعلت صبريّة، لأنها مُنعت من الزواج من حبيبها. وقد كتب عنها نزار قائلاً: “قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير…لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها. صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي…لا أزال أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت.” وكان لموتها المُبكر دور هام في تفجير موهبة نزار الشعرية.
مع ذلك، كانت دمشق وستبقى غنية بكل شيء، مثمرةً بكافة الثمرات. ولو تسمح للمؤرخين بالدخول إلى تفاصيل سراديبها وبيوتها، لربما تساوت في قصص العشق مع فيرونا أو حتى نازعت بيروت على لقبها.
سيريا هوم نيوز/4/ منوعات