الدكتور رجب السقيري
نشرت مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs الأمريكية مقالاً يوم الإثنين الماضي للباحثين “ليانا فكس” Liana Fix ومايكل كيماج” Michael Kimmage بعنوان “هل سيتخلى الغرب عن أوكرانيا” Will the West Abandon Ukraine . يؤكد الباحثان أن استمرار دعم الغرب لأوكرانيا أمرٌ غير مضمون، وأن تحولاً مفاجئاً في السياسة الخارجية الأمريكية قد يحدث في العام القادم، عام الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يشكل قلقاً لأوروبا.
يؤكد الباحثان أيضاً أن حرب أوكرانيا قد أرهقت الأوروبيين وأصابتهم بالوهن، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع نسب التضخم وتزايد احتمالات حدوث الكساد، كما يشيران إلى احتمال انتهاء الدعم الأوروبي لأوكرانيا واستمرار الدعم الأمريكي الأمر الذي قد تستغله روسيا باتباع “سياسة فرق تسد ” divide-and-conquer، والأهم من ذلك، يقول الباحثان، أن استمرار الحرب يخدم الولايات المتحدة في سعيها للمحافظة على قوتها أكثر من خدمته لمصالح الاتحاد الأوروبي، ولكن إذا جنحت أمريكا إلى الحل الدبلوماسي فلن تستطيع أوروبا معارضة ذلك، أما روسيا فسترى في ذلك تخلي واشنطن عن أمن أوروبا . ويشير الباحثان إلى احتمال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة مؤكدَين بأن ذلك إن حدث سيكون كارثةً بالنسبة لأوكرانيا، خاصةً وأن ترامب يردد في كل مناسبة أنه قادر على إنهاء الحرب الأوكرانية خلال 24 ساعة، ومما يفزع الأوروبيين من عودة ترامب أنه فكر خلال فترة رئاسته الأولى بالانسحاب من حلف الناتو . ويضيف الباحثان أن ترامب يريد حلاً دبلوماسياً للحرب في أوكرانيا، وأن الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه يرى أن التهديد الأكبر للولايات المتحدة يأتي من الصين وليس من روسيا.
أخيراً يختتم الباحثان مقالهما بحثّ الغرب على “احتواء روسيا” و”الحفاظ على سيادة أوكرانيا” لأن ذلك، على حد قولهما، يقف على رأس أولويات الغرب .
حرب أوكرانيا هي البديل عن الحرب العالمية
في مقالي المنشور في هذه الصحيفة بتاريخ 27 آب/أغسطس 2023 بعنوان : “إلى متى تستمر الحرب في أوكرانيا؟ ولماذا لا تريد واشنطن حلاً دبلوماسياً لها؟ وهل تغيير النظام الدولي الحالي مرهون بقيام حرب عالمية؟ أم أن حرب أوكرانيا يمكن أن تكون البديل؟ وماذا نرى في نهاية النفق ؟ “، أوضحت في المقال أن الولايات المتحدة لا ترغب بإيجاد حل دبلوماسي للحرب الأوكرانية حتى بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد رغم ما قدمته واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون إلى كييڤ من مساعدات عسكرية واقتصادية هائلة ورغم معاناة الأوروبيين جراء هذه الحرب وقلقهم من الخطر الروسي الذي يرون فيه تهديداً لأمنهم .
ثمة أسباب كثيرة تفسر عدم رغبة واشنطن بالحلول الدبلوماسية لعل أهمها أن النظام الدولي أحادي القطبية الذي تتربع الولايات المتحدة على عرشه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 قد أصبح آيلاً للإنهيار وأن صعود الصين وتقاربها مع روسيا وانضواء عدد من الدول المؤثرة على الساحة العالمية مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تحت مجموعة البريكس والذي تلاه انضمام بعض حلفاء أمريكا التقليديين إلى المجموعة قد أصبح ينذر واشنطن بالويل والثبور وعظائم الأمور .
وبما أن آخر نظامين دوليين قد جاء كل منهما بعد حربٍ عالمية طاحنة، إذ جاء النظام الذي أفرز عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى التي قام المنتصرون فيها باقتسام ما غنموه من الإمبراطورية العثمانية كما قاموا بعقد معاهدة لوزان المذلة التي فُرضت على تركيا إضافة إلى ما لحق ألمانيا من ذلٍ وهوان وما فرض على عرب المشرق من تقطيع أوصال وطنهم ومن الاستيلاء على فلسطين ومنحها لليهود بموجب وعد بلفور المشؤوم .
أما الحرب العالمية الثانية التي أفرزت منظمة الأمم المتحدة التي يفترض أنها تهدف إلى حفظ السلام والأمن الدوليين استناداً إلى نظرية الأمن الجماعي collective security فقد احتفظ المنتصرون في الحرب لأنفسهم “بغنيمة حق الڤيتو” في مجلس الأمن إضافة طبعاً إلى شروط مذلة على الدول المهزومة وبالذات ألمانيا واليابان حيث قسمت ألمانيا بين الغرب والاتحاد السوفيتي وانضم نصفها الشرقي إلى حلف وارسو بينما انضمت ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أما اليابان ففرض عليها المنتصرون قيوداً لا تسمح لها باستعادة قوتها العسكرية واحتفظ الاتحاد السوفيتي بجزر الكوريل اليابانية، كما فرضت على اليابان مظلة أمنية أمريكية مقابل مساهمة طوكيو بتغطية تكاليف الحروب الأمريكية في مناطق متعددة من العالم .
فشل النظام الدولي الذي جاء بعد الحرب العالمية الأولى بالاستمرار لأكثر من عشرين عاماً بينما استمر النظام الدولي ثنائي القطبية الذي تلا الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي واستأنف مسيرته كنظام أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة حتى الآن، أي لثلاثة عقود أخرى.
كاتب هذه السطور يعتقد جازماً أن ما يجري في أوكرانيا حالياً إنما هو حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا وأن الأولى مصممة على هزيمة الأخيرة هزيمةً قاصمة نكراء تزيح روسيا عن منافسة واشنطن في قيادة النظام العالمي وتضعف أو تفكك تحالفها مع الصين (المنافس الأقوى لأمريكا) وقوى عالمية أخرى وتمنع أي خلخلة في النظام الدولي القائم حالياً كي تبقى واشنطن هي المهيمنة الوحيدة على الشؤون العالمية ويبقى اقتصادها ودولارها عملة العالم المركزية .
متى يمكن أن تقبل واشنطن بحل دبلوماسي للحرب الأوكرانية
بقي أن نجيب على هذا السؤال : متى يمكن أن تجنح واشنطن لقبول حلول دبلوماسية للحرب الأوكرانية ؟ لقد عطلت واشنطن حتى الآن كل محاولات الوساطة بين روسيا وأوكرانيا بما فيها الوساطة التركية والصينية والأفريقية وغيرها وذلك لأن الحرب الأوكرانية تقوم حالياً بالمهمة والوظيفة نفسها التي يمكن أن تقوم بها حرب عالمية ثالثة مع فارق هام جداً وهو أن الحرب في أوكرانيا مهما بلغت تكاليفها فهي أقل كلفة بكثير من الحرب العالمية اقتصادياً وبشرياً وهي حرب بالوكالة شبيهة بالحرب التي شنها في أفغانستان عام 1979 وما بعدها نيابة عن أمريكا الجهاديون الإسلاميون ضد الاتحاد السوفيتي والتي مهدت لانهيار الأخير . كما تمتاز الحرب الأوكرانية بأن أمريكا تخوضها بجنود أوكرانيين وليس بجنود أمريكيين وعلى خلاف أية حرب مباشرة بين روسيا وأمريكا فلن تتطور الأخيرة إلى حرب نووية، اللهم إلا إذا اضطرت روسيا إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية لمواجهة القنابل العنقودية واليورانيوم المنضب الذي تقوم أمريكا بتزويد أوكرانيا به، وفي هذه الحالة يمكن أن تقوم واشنطن بالرد وتزويد أوكرانيا بمثل هذه الأسلحة، كما يمكن لواشنطن عندها شن حملة شيطنة عالمية مركزة ضد روسيا بوتن إذا استعملت أسلحة نووية، وقد تسفر الحملة عن طرد روسيا من الأمم المتحدة وإلغاء، أو على الأقل تعليق، عضويتها في مجلس الأمن وهو الهدف الأسمى لواشنطن .
أما متى يمكن أن تفتح أمريكا الباب للحلول الدبلوماسية للأزمة الأوكرانية فأتفق مع الباحثين المذكورين أعلاه فكس وكوماج أن عودة ترامب لرئاسة الولايات المتحدة قد تؤدي إلى حل دبلوماسي للأزمة الأوكرانية، رغم أن الولايات المتحدة لها أسبقيات في التخلي عن حلفائها كما حصل مؤخراً في تخليها عن أفغانستان، كما أن التغيرات الدراماتيكية في السياسة الخارجية الأمريكية تحدث أحياناً دون سابق إنذار .
ثمة سبب آخر قد يدعو الولايات المتحدة إلى قبول حلول دبلوماسية للأزمة الأوكرانية وهذا السبب يكمن في إمكانية جر الصين إلى مغامرة خطرة بشن حرب على تايوان وفي هذه الحالة ستضع واشنطن إمكانيات عسكرية واقتصادية هائلة وغير محدودة بتصرف تايوان من أجل إفشال المحاولة الصينية وستعمل على شيطنة بكين والتأثير سلباً على اقتصادها ومنع حلفاء واشنطن وبالذات الأوروبيين من التعامل معها سياسياً واقتصادياً وفرض عقوباتٍ عليها . ولكن الصين، حسبما شاهدت وخبرت قدراتها خلال عملي سفيراً لبلادي في بكين لمدة خمس سنوات في أوائل هذه الألفية، لن تنطلي عليها خطط “سحب الأرجل” مهما كانت الإغراءات، كما أن بكين تتبع استراتيجية تتسم بالصبر لسنين وعقود طويلة بل وقرون كما صبرت مائة عام لاسترداد جزيرة هونغ كونغ (عام 1997) من بريطانيا وجزيرة مكاو وتوابعها من البرتغال (عام 1999) . المهم عند الصين أن تبقي قضية تايوان حية وأن تلتزم جميع الدول التي تقيم علاقات مع الصين بسياسة الصين الواحدة وأن تايوان جزءٌ لا يتجزأ من الصين، وأن جمهورية الصين الشعبية هي الممثل الشرعي والوحيد لكل الصينيين في العالم .
ثمة أسباب عديدة أخرى إضافة إلى ما ذكر أعلاه قد تدفع واشنطن نحو الحلول الدبلوماسية للأزمة الأوكرانية قد نتناول بعضها في مقالات قادمة،
والله ولي التوفيق .
سفير سابق وباحث في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم