في بداية عام غير مفائل للاقتصاد المصري، تخيّم توقعات حول تعويم سابع للجنيه المصري، وسط ترقب مستمر لحركات محتملة في إطار مطالب مؤسسات التمويل الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي.
تلك الخطوات تأتي في ظل تحديات اقتصادية هائلة، حيث تصاعد التكهنات حول تأثير التزامات خارجية تصل إلى 42.3 مليار دولار خلال العام الحالي علما أن إجمالي الدين الخارجي لمصر يبلغ نحو 165 مليار دولار كما في سبتمبر من 2023 . مع هذا السيناريو المعقد، هل يبقى التعويم خيارًا لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية ولتهدئة حالة السوق؟ وكيف سيكون لها أثر مطمئن على المستثمرين والمؤسسات؟ دعونا نلقي نظرة على المشهد الاقتصادي المصري ونتساءل عن مستقبله المجهول.”
تعويم الجنيه المصري
تعويم الجنيه هو عملية تحرير سعر صرف العملة المحلية، حيث يتم تحديد قيمتها بشكل طبيعي وفقًا لقوى العرض والطلب في الأسواق المحلية والعالمية، دون أي تدخل مباشر من الحكومة أو البنك المركزي. وبالتالي، يكتفي دور البنك المركزي بالتدخل في تنظيم توقيت التحركات السعرية، دون تحديد قيمة العملة بشكل مباشر.
أنواع التعويم
يمكن تقسيم التعويم إلى نوعين أساسيين:
التعويم الحر:
يتميز التعويم الحر بتحرير سعر صرف العملة بكل حرية، حيث يتم ربطه بسلة من العملات الأجنبية مثل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني. ويتم تحديد قيمته بناءً على عوامل العرض والطلب في الأسواق المحلية والعالمية. هذا النوع من التعويم يستخدم عادة في الاقتصادات الرأسمالية الصناعية المتقدمة، إلا أنه قد يواجه تحديات في حالة الاقتصادات ذات الظروف الصعبة، مثل الاقتصاد المصري الذي يشهد ميزان تجاري هابط وانخفاضًا في احتياطيات النقد الأجنبي.
التعويم المدار:
-
في هذا النوع من التعويم، يتم تحديد سعر العملة بواسطة البنك المركزي، حيث تتدخل لجنة السياسة النقدية لتعديل سعر العملة بناءً على مجموعة من المؤشرات مثل الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف ومستويات أسعار الصرف. هذا النوع يسمح للبنك المركزي بالتحكم في السياسة النقدية وتحديد السعر بشكل منظم ومناسب للظروف الاقتصادية الراهنة.
مراحل تعويم الجنيه المصري
عهد السبعينات (1977): عندما أتاح الرئيس محمد أنور السادات عودة بطاقات الاستيراد للقطاع الخاص وافتتح حقبة الاقتراض من الغرب، التي تحوّلت لاحقًا إلى ما يُعرف بديون نادي باريس، لم يكن السادات قادرًا على تحرير الموازنة العامة في عام 1977. ومع تراجع تدفق الاستثمارات من الخليج وتردي الوضع الاقتصادي العام، شهدت مصر أزمات جديدة في قيمة الدولار، حيث ارتفع سعر الدولار رسميًا من 1.25 جنيهًا إلى حوالي 2.5 جنيه
-
التعويم الثاني (2003): في 2003، قررت الحكومة التعويم مرة أخرى، حيث أُطلقت حرية معاملات العرض والطلب في السوق، وتحديد سعر صرف الجنيه وفك ارتباطه بالدولار. ارتفع سعر الدولار بعد التعويم إلى 5.50 جنيه واستمر في الارتفاع حتى استقر عند 6.20 جنيه.
-
التعويم الحديث (نوفمبر 2016): في نوفمبر 2016، أعلن البنك المركزي تحرير سعر صرف الجنيه وتحديده وفقًا لآليات العرض والطلب. ارتفع سعر الدولار إلى أعلى مستوى عند 14.50 جنيه وأدنى مستوى عند 13.5 جنيه.
-
تخفيضات العام 2022 و2023: خلال عام 2022، خفضت مصر قيمة عملتها 3 مرات، مما أدى إلى تراجع الجنيه بنسبة 25% في 2023 وأكثر من 69% منذ مارس 2022.
-
تحركات السوق الموازية (2023): بالرغم من استقرار أسعار الدولار في السوق الرسمية، شهدت السوق الموازية تحركات عنيفة، مما أدى إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في بعض الفترات إلى مستوى يتجاوز 55 جنيهًا، وفي الوقت الحالي يتداول في السوق السوداء بمستويات تخطت 52.50 جنيه.
الاقتصاد المصري وسط انفلات الدولار
تكشف أحدث التقييمات عن تباطؤ نمو الاقتصاد المصري بشكل أكبر من التوقعات، مما يشير إلى احتمالية مواجهة البلاد لانتكاسة كبيرة خلال عام 2024. يعاني الاقتصاد المصري منذ عام 2020 من تراكم الأزمات، وتظهر البيانات الجديدة تأثير ذلك بوضوح.
استطلاع لرويترز يكشف عن نمو اقتصادي أبطأ من المتوقع، حيث يتزايد تراجع الجنيه وانخفاض القوة الشرائية نتيجة لارتفاع التضخم وتأثيرات الصراع في غزة على مصادر العملة الأجنبية.
وانخفضت إيرادات قناة السويس بنسبة 40٪ في النصف الأول من يناير، جراء هجمات الحوثيين في اليمن وتأثيرها على حركة الشحن. وعلى صعيد السياحة، تراجعت توقعات النمو بسبب الحرب في غزة، على الرغم من الأداء القوي للقطاع في العام الماضي.
وكانت وكالة موديز للتصنيف الائتماني قد تقدمت بخطوة غير متوقعة الأسبوع الماضي، حيث خفضت نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية. تأتي هذه الخطوة بعد تعثر حزمة الدعم المالي التي قدمها صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار في ديسمبر 2022.
وكانت مصر قد فشلت في تحقيق التزاماتها، حيث لم تنتقل إلى نظام سعر صرف مرن كما وعدت، ولم تقلص دور الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص كما كان متوقعًا.
أسعار الذهب والعقارات في مصر وسط ترقب تعويم الجنية المصري
يشهد قطاع العقارات في مصر تحولًا كبيرًا في الأسعار نتيجة للارتفاع الحاد في تكاليف مواد البناء، الذي تأثر بانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة تصل إلى 75٪ منذ بداية العدوان على غزة في أكتوبر الماضي. هذا الهبوط في قيمة العملة تسبب في زيادة كبيرة في أسعار العقارات بجميع فئاتها.
وتأثرت تكلفة وحدات السكن والوحدات الإدارية والتجارية بشكل كبير بارتفاع أسعار مواد البناء، مما يضع ضغوطًا كبيرة على المطورين العقاريين الذين يتعاملون مع تحديات الاستمرار في إكمال مشروعاتهم.
ومنذ بداية هذا العام، قامت شركات إنتاج الحديد في مصر برفع أسعار منتجاتها بنسبة 44٪، حيث زادت بنسبة 100٪ مقارنة بالعام الماضي. هذه الزيادات المستمرة تلقي بظلالها على تكاليف الإسكان وتزيد التحديات على المطورين العقاريين في السوق.
ويشهد سوق الأسهم في البورصة المصرية حالة من النشاط الكبير، حيث يتم تحقيق سيولة قوية ويشهد التداول إقبالًا كبيرًا من قبل المستثمرين مع تزايد العمليات الشرائية. في الوقت نفسه، تواصل أسعار الذهب والعقارات ارتفاعها المستمر، حيث يُعتبران ملاذين آمنين في ظل التوترات المحتملة المتعلقة بتوقعات تعويم جديد للجنيه المصري.
انخفاض الجنيه المصري وتأثيره على المستهلك
الجنيه المصري يشهد انخفاضاً غير مسبوق في قيمته مقابل الدولار، حيث انخفضت قيمته إلى مستويات قياسية في السوق الموازي، وتسارعت وتيرة هذا الانخفاض خلال الأيام الأخيرة، مما أثار تساؤلات وتوقعات حول مستقبل العملة وتأثيراته على الاقتصاد والمجتمع.
لم تحصل العملة المحلية على أي دعم إيجابي من بعثة الصندوق النقد الدولي في القاهرة، مما يعكس التحديات التي تواجهها مصر في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة. ومنذ بداية العام، شهد الجنيه انخفاضاً بنسبة 19% في السوق السوداء، حيث ارتفع سعر صرف الدولار مقابله إلى متوسط 63 جنيهاً.
وسعر الدولار في السوق الموازية يشير إلى حقيقة مختلفة تمامًا عن توقعات الحكومة المصرية. في حين تتوقع الحكومة وصول سعر الدولار إلى 33.45 جنيهًا خلال 2024 و35.5 جنيهًا في 2025، يظهر السوق الموازي أن الدولار يتداول بسعر يصل إلى 63 جنيهًا، مما يفتح الباب أمام فجوة تصل إلى 100%..
والأسواق المصرية تشهد فترة من الجفاف، حيث تختفي بشكل مفاجئ العديد من المنتجات، خصوصًا الأجهزة الكهربائية والمنزلية، وقطع غيار السيارات والهواتف الذكية. هذا الوضع يأتي وسط ترقب متزايد لخفض جديد في قيمة الجنيه، مع تفاقم نقص النقد الأجنبي وزيادة ضغوط الديون الحكومية وأقساط القروض.
بعض التجار والشركات يجدون أنفسهم مضطرين لتعليق بيع منتجاتهم بسبب تقلبات أسعار الصرف، حيث يصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى أكثر من 60 جنيهًا، في حين يظل مستقرًا حوالي 31 جنيهًا في البنوك. هذا الوضع يؤثر سلبًا على حركة الاستيراد ويؤدي إلى تجميد العديد من الأعمال التجارية.
بالوقت نفسه، يضطر التجار إلى احتكار السلع وتخزينها، في انتظار ارتفاع أسعارها، بينما يتوجب على آخرين تطبيق هوامش ربح أعلى، مما يضع ضغوطًا إضافية على المستهلكين ويعكر صفو الأسواق.
توقعات مؤسسات مالية
تتوقع مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” البحثية أن يظل البنك المركزي المصري على سعر الفائدة دون تغيير في اجتماعه المقبل الذي سيعقد يوم الخميس القادم، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي. ويأتي هذا في ظل تباطؤ معدل التضخم السنوي في مصر، حيث وصل إلى 33.7% في ديسمبر الماضي، مقارنة بـ34.6% في نوفمبر.
من جانبها، تتوقع شركة “إتش سي” للأوراق المالية أيضًا استمرار استقرار أسعار الفائدة في الاجتماع القادم للبنك المركزي. وقد أشارت هبة منير، محللة الاقتصاد الكلي في الشركة، إلى أنها لا تتوقع أي تغيير في أسعار الفائدة ما لم يحدث تغير في سعر الصرف الرسمي.
تجدر الإشارة إلى أن لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي المصري قررت في اجتماعها الأخير في ديسمبر الماضي الإبقاء على سعري الإيداع والإقراض دون تغيير، وكذلك الحفاظ على سعر العملية الرئيسية عند مستوى محدد.
في النهاية تبقى هناك الكثير من التساؤلات تحوم في الأفق، وتثير الجدل حول مستقبل البلاد واستقرارها الاقتصادي. هل ستتمكن مصر من التغلب على تحدياتها الحالية وتحقيق النمو المستدام؟ هل ستستمر في سياستها الاقتصادية الحالية أم أنها بحاجة إلى إصلاحات جذرية؟
كيف ستتأثر الاقتصاد المصري بتطورات الأحداث الإقليمية والدولية، وهل ستكون قادرة على استغلال الفرص المتاحة رغم التحديات؟ وما مدى تأثير سياسات البنك المركزي والتحركات الحكومية على مستقبل العملة المحلية والاقتصاد بشكل عام؟
هذه التساؤلات، وغيرها، تعكس تعقيد الوضع الاقتصادي في مصر وتداعياته المحتملة، وتجعل من متابعة تطورات الاقتصاد المصري أمرًا لا غنى عنه للمستثمرين والمتابعين على حد سواء.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم