| مصعب أيوب
تعاني دور السينما في دمشق، وفي سورية عامة حالة التردي، فلا أفلام، ولا مواعيد، ولا تبديل أفلام، والأفلام التي نسمع بها لا تجد طريقها إلى دور السينما! والأفلام السورية التي تنتجها المؤسسة العامة للسينما لا مكان لعرضها، ويكتفى بعروض قليلة، ثم تتحول إلى مهرجانات فلماذا؟ ولماذا أهملت السينما وأغفل دورها التنويري المجتمعي؟
الدور السينمائي والتحول
في فترة سابقة كان القانون يكبل أصحاب دور السينما، إذ لا يجوز أن تحول مهنتها ولا أن تستثمر في غير مهمتها، وكان السعي من الدوائر المعنية بأن يلتزم كل أصحاب «المولات التجارية» و«التجمعات السكنية بتخصيص مكان لدار سينما ولو بحجم صغير، وأنشئت المولات والمدن والضواحي ولم يلحظ وجود أي سينما جديدة لتكون متنفساً فنياً واجتماعياً للقاطنين، وبقيت دور السينما في حالة الغيبوبة، ومنذ مدة بسيطة شهد أبناء دمشق افتتاح سوق تجاري في بناء سينما الأهرام نفسه بدمشق، فكيف تحولت هذه السينما؟
سألنا السيد محمد الذي يدير المتجر عن الأمر فقال: إن الإدارة حصلت على الموافقات الرسمية والتراخيص اللازمة لذلك، ومن ثم تم تغيير مواصفات صالة السينما، وأصبحت معرضاً تجارياً! اكتفى بذلك وطلب أن نراجع الجهات المختصة، فالأمر ليس من اختصاصه!
وعندما سألنا مدير عام مؤسسة السينما مراد شاهين أخبرنا أن القانون تغير، وهناك ملاحظة بأن من يستثمر موقع سينما فإنه يلزم بصالة سينما ولو مئة كرسي، وهذا الأمر ليس من اختصاص المؤسسة، وله جهات هي التي تمنح التراخيص وتغير المواصفات.
وهذا يعني أن جميع دور السينما في دمشق قد يحصل أحدها على تراخيص تحولها إلى مهنة أخرى، ومن حيث المبدأ هذا حقه في ملكه، أما الالتزام بدور ولو كانت 100 كرسي فهو مجرد كلام..!
ونسأل: ضمن هذه الشروط التي يتحدث عنها مدير عام مؤسسة السينما ماذا تحقق لتتحول السينما إلى متجر؟!
وإن بقيت زمناً طويلاً من دون إنشاء مجمع، فهل نقول: بالأمس كانت هنا سينما؟
علامة استدلال
كانت صالات السينما سابقاً تشكل عاملاً فارقاً في دمشق، وكانت تمثل معلماً حضارياً وعنواناً استدلالياً إذ كان بالإمكان أن تضرب موعداً مع أحدهم بالاتفاق على لقاء أمام هذه السينما أو في الشارع الذي شيدت به تلك السينما، ولكن اليوم عدد كبير من الشباب لا يعلم أساساً أن دمشق ليس فيها دور سينما سوى سينما سيتي بالقرب من جسر فكتوريا وسط العاصمة دمشق، فلا يمكننا اليوم حصر أهمية السينما على فئة محددة من الجمهور دون أخرى، لأن ذلك يعد مجحفاً بعض الشيء فهي تعمل على تناقضات كثيرة، تكشف القبح وتجمله وتعكس الأمل وترينا عبث الواقع وهي وسيلة للتعبير الإنساني وحاجة ملحة على مر التاريخ، ولا يمكن الاستغناء عنها، فقد تباينت أسباب تدهور وانتكاس واقع السينما في سورية، وربما لا يوجد ظرف ما أو سبب ما إلا وكان له أثر في ذلك، ما جعل مهمة البحث عن حلول وإستراتيجيات للنهوض بهذا الواقع أمراً معقداً وشاقاً ويستغرق وقتاً طويلاً.
سينما افتراضية
غصت دور العرض بالزبائن لفترات طويلة وكان حضور فيلم يعتبر عيداً جماهيرياً للبعض وكان من يقصد الذهاب للسينما يرتدي أجمل ما لديه من اللباس ويتفنن في استخدام الطيب من العطور وكأنه في مناسبة مهمة إلى أن طغت سلطة التطور التكنولوجي والرقمي الذي شهده العالم مؤخراً ومنطقتنا خصوصاً متضمنة تطور وسائل الإعلام ومنها التلفاز، ثم ما يعرف بأشرطة الفيديو والقنوات التلفزيونية الفضائية والتي اختص قسم منها في عرض الأفلام السينمائية، كل هذا كان له عظيم الأثر على صناعة المتعة من خلال السينما وكذلك منصات التواصل الاجتماعي ولاسيما المتخصص منها بعرض الأفلام وأهمها منصة (نيتفليكس)، حيث يسميها البعض السينما الافتراضية، وكان أول العروض العربية عبرها الفيلم المصري (أصحاب ولا أعز)، فالمنصات الإلكترونية تعد منافساً مزعجاً للسينما التقليدية، وقد لاقت هذه المنصات قفزة نوعية واستحسان الجمهور لها على حساب تراجع القاعدة الجماهيرية للسينما، وقد عزا أحد أقارب أصحاب سينما أوغاريت رفض ذكر اسمه أسباب انتكاس مهنة السينما إلى الغزو الإلكتروني الحاصل على حد وصفه موضحاً أن أوغاريت أغلقت منذ عام 2006 نتيجة اتساع جماهيرية التلفاز وشبكة الإنترنت وبالتالي عزوف الزوار عن الذهاب للسينما والاكتفاء بمتابعة أفلامهم المفضلة عبر الهاتف النقال أو التلفاز، وفي معرض حديثه يقول: إنه لم يبق حالياً سوى سينما سيتي التي يعتبرها لأصحاب الطبقة المخملية والوحيدة التي باستطاعتها عرض الأفلام الحديثة وبمقدورها توفير وسائل راحة متنوعة لزوارها ويرجح ذلك إلى ارتفاع أسعار تذكرة دخولها.
أسباب متباينة
يقول رجل ثمانيني يسكن في دار مجاورة لسينما السفراء: إن السينما كانت تعرض أفلاماً شائقة، واعتاد أن يزورها مع رفاقه في كل أسبوع مرة أو مرتين، حيث رائحة المتعة والإثارة تنتشر في كل مكان، إذ كان الناس يستمدون القوة والشجاعة والشيم النبيلة من السينما التي تعد الملقن الوحيد للناس على حد وصفه، لأنها أسهمت بشكل كبير في خلق توجهاتهم وبناء شخصيتهم، أما اليوم فقد أصبحت صالات السينما تعرض أفلاماً قديمة ومكررة، ومن سيكترث لمشاهدة فيلم لن يضيف له شيئاً جديداً، وأشار أبو فيصل إلى أنه بعد أن أحدثت المؤسسة العامة للسينما في سورية التي احتكرت صناعة الأفلام لمصلحتها وكانت تشتري أفلاماً تتناسب مع ميزانيتها ولا تجلب الأفلام الجديدة أثرت بشكل أو بآخر على الواقع الحالي للسينما.
ويقول أحد القائمين بأعمال سينما دنيا: إن نسبة 90 بالمئة من دور السينما في دمشق قد أغلقت وهو أمر ليس بغريب، فإن المواد الأولية اللازمة لتشغيل الصالات غير متوافرة ومن جملتها الكهرباء ومواد التدفئة وما إلى ذلك إضافة إلى تفرد المؤسسة العامة للسينما بشراء الأفلام التي تتناسب مع ميزانيتها وقدرتها الشرائية، وبالتالي لا تجد سوى الأفلام القديمة.
ويوضح موظف في فندق الشام لـ«الوطن» أن سينما الشام كانت أهم دور العرض ولاسيما عرضها لأفلام مهمة وحديثة، وقد تم استثمارها من رجل خليجي وتعهد بإعادة ترميمها وتحديث أجهزتها ومعداتها وجعلها ضمن مصاف دور السينما الرائدة وكان المخطط تخصيصها لأصحاب الشأن الرفيع، ولكن لا نعلم ما الذي تغير وماذا حل به، فقد غادر سورية منذ وقت طويل ولم يعد حتى اليوم وما زال العقد الذي أبرم معه ساري المفعول.
أفادنا أحد القائمين بأعمال المقهى المحدثة ضمن الطابق العلوي لسينما الزهراء أن مالكي هذه السينما كثر ومنهم توفي ومنهم غادر البلاد، والبعض الآخر يعمل في مهن أخرى مختلفة ولا أحد يقوم بتطوير أو تحديث معداتها بعد أن أضحت قديمة جداً وبحاجة إلى إصلاح أو ربما استبدال بأنواع أكثر كفاءة، وذات مرة تم عرض هذه السينما للبيع، ولكن دون جدوى فمن يمتلك مبلغاً ضخماً فسيدفعه مقابل هذا المبنى الضخم إذ إن سعره ضرب من الخيال، فباتت أبوابها موصدة ومقاعدها ألغى الغبار ملامحها وأضواؤها ومعداتها بلا كهرباء.
سينما للرفاهية
عزا أبو محمد أحد القائمين على سينما السفراء تردي حال السينما إلى الوضع العصيب الذي تعيشه سورية اليوم، إذ وصف أن متابعة الأفلام في السينما تعتبر من الرفاهية والكماليات، مبيناً أن صالته لا تعمل بشكل يومي، فربما تجد أبوابها مفتوحة وتعرض الأفلام لتأتي في اليوم التالي وتجدها أقفلت أبوابها وليس فيها أحد، ويضيف: تم مؤخراً تجهيز مكان في الطابق العلوي لجعله مقهى لكبار السن لإمضاء بعض الوقت واحتساء كأس من المشروبات الساخنة لسد بعض النفقات، وأشار إلى أن الشغل الشاغل اليوم للناس هو تأمين المستلزمات الضرورية من غذاء ودواء ومحروقات وكهرباء ولا يوجد متسع من الوقت لحضور الأفلام لكونها شيئاً ثانوياً على حد تعبيره، ويضيف: لقد سبّب تراجع أعداد الوافدين بتدني المدخول، فقد تم الاستغناء عن عدد كبير من العاملين في الصالة وإلا لما كان بالإمكان سد النفقات وصرف المرتبات لهم.
إستراتيجية إعلانية
طرقات مزدحمة والمشاة يعبرون الشارع ذهاباً وإياباً والباعة المتنقلون يجولون هنا وهناك، سينما الزهراء تغلق أبوابها وتفتقد زوارها الذين كانوا يمضون ساعات طويلة في حضور أفلامهم المفضلة بعد أن تملكهم الشوق والتلهف لحضورها بعد الإعلانات المبهرة والضخمة على جدران الأبنية المجاورة والإعلانات الطرقية هنا وهناك، وكان يتم الإعلان عن فيلم ما بوساطة الصحف الورقية اليومية إضافة إلى الإعلان من خلال اللافتات الطرقية والرسومات الجدارية والأضواء المبهرة والألوان التي تلفت الأنظار، هكذا يعبر الحاج سعيد عن حزنه وأسفه على ما آلت إليه الحال اليوم في السينما السورية، ففي أوجها السينمائي خلال الثمانينات كانت دمشق تحتضن عدداً لا يستهان به من صالات العرض السينمائي، ولكن اليوم بات الوضع مختلفاً تماماً وتشير المعطيات إلى أن صناعة السينما دخلت في سبات عميق.
متعة خاصة
بلدنا عريق، ومن المعيب أن يضيع تراثه إذ إن السينما تعني الحضارة وخسارتها هي خسارة التاريخ، هذا كان رأي محمود حديد الذي يرفض القول السائد بأن التلفاز وشبكة الإنترنت والتطور الحاصل أثر بشكل سلبي في دور السينما ورسالتها وهو يعتبر أن لمتابعة الأفلام من خلال الشاشة العملاقة متعة لا تضاهيها متعة، ولا يمكن استبدالها بشاشة الهاتف النقال الصغيرة، فمن اعتاد المشاهدة عبر شاشات السينما فلن تستحوذ على اهتمامه أي طريقة عرض أخرى، ويضيف موجهاً كلامه للذين أبهرتهم التكنولوجيا الحديثة: إن الكهرباء ربما تنقطع في أي وقت وكذلك فإن جودة شبكة الإنترنت ليست بالممتازة ولا تسمح للمشاهد بمتابعة أفلامه المفضلة ولا تمنحه الشعور المرجو وربما بسبب ضعف شبكة الإنترنت يتوقف البث وتفوتك اللقطة المهمة أو المشهد المحوري في الفيلم.
يشير محمود حديد الذي يحلو له أن ينعت بلقب( شيخ كار السينما) بسبب شغفه منذ الصغر بها وتعلقه بكل ما هو جديد فيها وإقباله السريع لاقتناء أيّ معدات تصوير أو أجهزة إسقاط سينمائي واحتفاظه بالكثير من هذه المعدات التي وصل عمر بعضها لسبعين أو ثمانين عاماً، إلى أن إغلاق صالة عرض سينمائي يحتاج إلى مرسوم رئاسي ولا يمكن لأي أحد أن يغلقها لمجرد أن الإقبال قليل أو المردود منخفض، مبيناً أن عملية الحصول على تراخيص لإقامة سينما في مكان ما تتم منذ اللحظة الأولى التي يتقدم بها صاحب البناء للحصول على رخصة البناء وبالتالي فإن إقفالها ليس أمراً عادياً.
وعن الحلول الممكنة يقول شيخ الكار: إن الموضوع بحاجة إلى تحرك حكومي ولاسيما تأمين الكهرباء ومواد التدفئة إضافة إلى رفع العقوبات عن سورية التي أدت بدورها إلى جمود الحركة في مفاصل الواقع اليومي السوري كافة، فالدعم أمر ضروري، وعن التسهيلات الحكومية التي تم تقديمها في عام 2011 من خلال المرسوم رقم 118 حول إعفاء المعدات والتجهيزات السينمائية من الرسوم الجمركية، يقول أحد العاملين في سينما دنيا: إننا قمنا بتحديث الكثير من الأجهزة ولكن الإقبال ما زال ضعيفاً ولم نشهد أي تغيير رغم الإعلان عن هذه التحديثات.
غياب الاهتمام والتطوير
وفي سؤال موجه لمراد شاهين المدير العام للمؤسسة العامة للسينما قال: لقد أثر الواقع الاقتصادي بشكل كبير في مقدرة العائلات والأشخاص في الذهاب للسينما ولاسيما وجود أولويات أساسية للحياة، ويضيف أيضاً: إن عزوف مالكي صالات العرض عن تحديث وتطوير صالاتهم والقيام بأعمال الترميم والصيانة بشكل دوري أو تغيير الأثاث والمعدات لمواكبة الشكل الحديث والحضاري لدور السينما العالمية وعدم شرائهم وعرضهم للأفلام الحديثة والنوعية، كل هذا وذاك أدى بطبيعة الحال إلى تراجع الواقع السينمائي في سورية، وفي ظل دخول تطورات كثيرة لصالات السينما في المنطقة والعالم وعدم مواكبة أعداد كبيرة من صالاتنا المحلية للتطور الحاصل فقد باتت دور العرض هذه بدائية وقديمة وذات طابع تقليدي، وهو الشكل الذي تم نسفه عالمياً، وكذلك فإن غياب الإنتاجات السينمائية في القطاع الخاص، وهو ما يعني غياب الفيلم السوري عن الساحة.
أخيراً فإن صالات السينما هي المحرك الأساس لإنعاش الواقع السينمائي إضافة إلى إنشاء شركات إنتاج وقطاعات تهتم بهذه الصناعة، فالسينما صناعة حقيقية ذات مقومات اقتصادية، لا يمكننا الاستهانة بها، فحضور الأفلام السورية في المهرجانات الدولية خجول جداً، وصناعة الأفلام تعد انتصاراً للوعي وفخراً للثقافة، حيث بوساطتها يمكن لصناع هذه الإنتاجات أن يعبروا عن واقعهم بلغة بصرية جميلة.
سيرياهوم نيوز1-الوطن