بقلم:د. حسن أحمد حسن
لا تتوقف تداعيات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وداعميه عند عشرات آلاف الشهداء الذين صودرت حيواتهم وقتلوا بكل وحشية أمام بصر العالم وسمعه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمئة ألف جريح وغالبية الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والطواقم الصحية والإعلامية، إضافة إلى تدمير كل مظاهر الحياة في قطاع غزة وتحويله إلى جغرافيا غير قابلة للسكن والعيش، فأكثر من 80% من أبنيته ومرافقه العامة تمت تسويتها بالأرض، وكل ما يتعلق بالبنية التحتية الخدمية غدت خارج الخدمة والصلاحية، وهذا يشكل صفعة لكل ما له صلة بالإنسانية والقيم والأعراف التي تحكم سياسات الدول والكيانات عبر التاريخ، ومن حق المتابع العادي وكل من لديه أدنى إحساس أن يسأل الغرب المنافق: أين قيم الحرية والديمقراطية التي تتشدقون بها، والتي كانت حصان طروادة لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة لغزو دول مستقلة وتغيير أنظمة حكم بالقوة بذريعة حماية حقوق المرأة والطفل والبيئة والديمقراطية والحريات الشخصية؟ من حق أي متابع أن يصرخ ملء الفيه في وجه من ما يزال لديهم بقية من ضمير ـــ هذا إن بقي أحد منهم ـــ كيف تنفذ جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري، ولا يمور العالم بكليته لوقف شلالات الدم التي تزداد غزارة على مدار الساعة؟ أين ما يسمى مجتمع دولي والأمم المتحدة يتم نحر منظماتها التابعة لها بشكل مباشر، في الوقت الذي تقتصر بها ردود الأفعال على بعض الإدانات والاستنكار والشجب والبيانات الخجولة المخجلة؟ وإذا كان الدم الفلسطيني لا يعني شيئاً لبلاد العم سام، أليس من أولى واجبات الأمم المتحدة أن تتحرك ولو بخجل وتردد وتوجس لحماية المنظمات التابعة لها على أقل تقدير؟
بالأمس تمت المصادقة في القراءة النهائية في الكنيست الإسرائيلي على حظر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا ــ UNRWA) من العمل في الأراضي الفلسطينية، وهي وكالة تتبع للأمم المتحدة مباشرة، وليست فلسطينية ولا طارئة وحديثة المولد والنشأة، بل هي وكالة غوث وتنمية بشرية أسست بموجب قرار الجمعية العامة رقم “302” الصادر بتاريخ: 8/12/ 1949 لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وبدأت الأونروا عملياتها يوم الأول من أيار 1950، حيث أنيطت بها مهام هيئة الإغاثة التي تم تأسيسها من قبل، وتسلّمت سجلات اللاجئين الفلسطينيين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي اليوم الرئة الوحيدة المتبقية ليتنفس من بقي من الفلسطينيين بعض أوكسجين الحياة، لكن هذا الأمر لا ينسجم والغطرسة الصهيونية المنفلتة من كل عقال، فكان القرار الوقح والمعبر عن حقيقة النزعة الإجرامية المتوحشة لدى حكام تل أبيب بحظر عمل الأونروا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإذا كان العالم اليوم يقف مكتوف الأيدي أمام هكذا إجرام وعدوانية وتوحش، ويكتفي بالتزام الصمت، أولا يقدم على اتخاذ أية خطوة إجرائية لإنقاذ ماء وجه الأمم المتحدة فأي غدٍ ينتظر البشرية جمعاء؟
قد يكون من المفيد التذكير هنا بأنه سبق اتخاذ هذا القرار الإجرامي مجموعة من الخطوات التي اعتمدتها تل أبيب بغض طرف أمريكي متعمد، حيث أعلنت الأونروا بتاريخ 18/3/2024 أن السلطات الإسرائيلية رفضت السماح للمدير العام للوكالة فيليب لازاريني بدخول قطاع غزة، واقتصر الموقف الأمريكي عند الإعلان على لسان نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية بأنه: يجب على “إسرائيل” أن تسمح لمفوَّض الوكالة بالدخول إلى القطاع، في حين تجرأ مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على الإشارة إلى أهمية دور الأونروا، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه باعتبارها شريان الحياة للمدنيين المحاصرين في قطاع غزة كما توفر الدعم الضروري للفلسطينيين في المنطقة بأكملها، وفي 17/4/2024 أقدمت القوات الإسرائيلية على احتجاز موظفي الوكالة فعبرت الخارجية الأميركية عن قلقها العميق إزاء سوء المعاملة التي تعرض لها المعتقلون التابعون للأمم المتحدة، وسرعان ما تعاملت حكومة نتنياهو مع المتفق عليه مع واشنطن، فطالبت المجتمع الدولي بحل الوكالة الأممية بذريعة أن عدداً كبيراً من موظفي الوكالة تورطوا في الهجوم الذي نفذته حركة حماس في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، وبتاريخ 26/4/2024 قال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمم المتحدة: “إن محققي المنظمة الذين ينظرون في اتهامات إسرائيلية لموظفي الأونروا بالمشاركة في هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر، أغلقوا ملف القضية بسبب عدم تقديم إسرائيل أية أدلة على ذلك”، وفي التاسع من أيار من هذا العام أعلن فيليب لازاريني” إغلاق مقر الوكالة في القدس الشرقية بعد إضرام إسرائيليين النار في محيطه مرتين خلال أسبوع، وقد أوقفت /16/ دولة تمويلها بسبب مزاعم إسرائيلية وصفت الوكالة بأنها “منظمة إرهابية” ولاحقاً عاد بعضها للتمويل، حيث تم توقيع /118/ دولة بتاريخ 12/7/2024م. على التزام مشترك بدعم وتعزيز الدعم المالي والسياسي للأونروا.
لا شك أن الأوضاع الكارثية التي يعيشها الشعب الفلسطيني وبخاصة داخل قطاع غزة وإسناد الظهر الإسرائيلي إلى القوة الأمريكية قد شجع نتنياهو وحكومته للإيغال أكثر في حرب الإبادة الممنهجة، وتحت سحب الدخان الذي تنشره واشنطن عن ثمة آمال تعقد على اجتماعات في قطر للتوصل إلى اتفاق لإطلاق النار أصدر الكنيست الصهيوني مساء يوم الاثنين 28/10/2024 قراراً يمنع أنشطة “الأونروا” في جميع المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
هكذا يتحدى كيان الاحتلال الشرعية الدولية وقراراتها، ويضرب عرض الحائط بجميع ما قد يصدر من إدانات وبيانات شجب واستنكار لم تفلح حتى اللحظة في إيقاظ الضمير الإنساني، ويخشى أن تكون الغيبوبة الطويلة التي أدخل فيها قد تسببت في موتٍ لم يتم الإعلان عنه بعد… فهل من متعظ؟
(موقع سيرياهوم نيوز-١)