السفير د. عبدالله الأشعل
يتحدث المسؤولون المصريون دائماً عن أن مصر دخلت فى تحالفات إستراتيجية حتى بلغت هذه التحالفات عددا كبيرا يستحق المناقشة المتخصصة، وهى مناقشة مهمة تشى بأننا نفترض أن هؤلاء المسؤولين لايتحدثون إلى أموات ومقابر أو قطعان من الماشية، وبأنهم يفهمون معنى التحالف الاستراتيجى بالمفهوم العلمى، وبأنهم أخيرا يعنون ما يقولون.
وقد أعلن أن مصر فى تحالف استراتيجى مع الولايات المتحدة ومع العراق ومع روسيا وربما مع فرنسا والسعودية ودول التحالف السعودى ضد اليمن وهى فى تحالف استراتيجى ضد الإرهاب الإسلامى الذى تلتقى فيه مع روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة والحكومة السورية.
التحالف الإستراتيجى يعنى أن هناك رؤية بعيدة المدى تعتمد على عناصر محددة لتحقيق أهداف معينة. والتحالف الإستراتيجى يكون عادة إما للدول الصغيرة فيما بينها لتحقيق هدف معين ضرورى بالنسبة للدولتين وإما أن يكون من جانب دولة عظمى ينتظم فى رؤيتها عدد من الدول. فالاستراتيجية الأمريكية مثلاً تتكون من رؤى متعددة عالمية وإقليمية وبذلك تكون التحالفات لازمة لتحقيق هذه الرؤي. فإذا كانت الاستراتيجية الأمريكية فى لحظة من اللحظات تبدو للمراقب أنها متناقضة فقد يكون ذلك من ناحية الشكل وليس المضمون ومثال ذلك الموقف الأمريكي من تركيا والأكراد . أما الاستراتيجية الروسية فهى على النقيض تماما من الاستراتيجية الأمريكية تقريباً أى هناك بعض المسائل التى لا تشملها عوامل التناقض بين القوتين العظميين وهى على سبيل التحديد إسرائيل وتركيا. ومن الطبيعى أن يكون هناك استراتيجية إسرائيلية بعيدة المدى مرتبطة بالمشروع الصهيونى وكان ذلك واضحاً عند آباء المشروع ثم عند أجياله المتعاقبة وإن غمض ذلك على الضحايا أو المراقبين. والاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية تتناسقان ولا تتطابقان إلا فى الأهداف الكلية ولذلك فإن إسرائيل تعتمد على الولايات المتحدة فى تحقيق إستراتيجيتها بالكامل. ومن هذا المنظور يستحيل تفسير الاحتضان الأمريكى لإسرائيل إلا فى ضوء نظرة أوروبا والغرب إلى إسرائيل كوكيل حصرى لها فى المنطقة العربية. وخلال الحرب الباردة كانت إسرائيل جزءا من الاستراتيجية الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتى وكانت توهم واشنطن بأنها تقوم بدور حيوى فى سد الخطر الشيوعى عن الشرق الأوسط- منطقة النفوذ التقليدية للولايات المتحدة. وعندما حدث الصراع العربى الإسرائيلى تناقضت المصالح السوفيتية مع الإسرائيلية مما يظهر أن الاستراتيجية الإسرائيلية أوسع نطاقاً من الاستراتيجية الأمريكية وأنها تستخدم هذه الاستراتيجية الأمريكية وامكانياتها لصالحها. وقد دفعت هذه الحقيقة بعض المفكرين إلى الاعتقاد بالارتباط العضوى بين إسرائيل والولايات المتحدة فإذا انحسرت القوة الأمريكية انحسرت معها القوة الإسرائيلية، وإن كان البعض يرى أن الأنانية الإسرائيلية تدفعها إلى تعويض النقص فى القوة الأمريكية بالتحالف مع القوى البازغة فى النظام الدولى ويستدلون على ذلك بالعلاقات الجديدة بين إسرائيل والصين.
والعلاقات الاستراتيجية لا تقوم إلا بين دول مستقلة استقلالاً حقيقياً وأما العلاقات التى تقوم بين دولة عظمى ودول صغيرة فإنها ليست علاقات استراتيجية إلا إذا كانت الدولة الصغيرة قد ربطت مصيرها بشكل مطلق بالدولة العظمى وهو واضح فى علاقات واشنطن بعدد قليل من الدول العربية، وإن كانت بعض النظم العربية تحل محل الدول فى علاقاتها بواشنطن فتظل هذه النظم مادامت علاقتها بواشنطن مفيدة للاستراتيجية الأمريكية. ولا يخفى المسؤولون فى مصر أنهم يعتزون بأن مصر جزء من الاستراتيجية الأمريكية فكيف تكون العلاقات الاستراتيجية بين الكل والجزء؟.
يترتب على ماتقدم أن الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة والتى تجعل إسرائيل محورها لا تعترف بأى مصالح لأى دولة عربية تتناقض مع الاستراتيجية الإسرائيلية التى تقوم اساساً على التفوق العسكرى والتكنولوجى واختراق النظم العربية والنخر فى العظام السياسية للشعوب والقضاء على العروبة والإسلام كهوية للمنطقة وتمزيق المنطقة العربية والقضاء على مصر قضاءاً مبرماً بالجوع والعطش والاذلال والتبعية وهذا هو لب الاستراتيجية الإسرائيلية التى بدأت فى التطبيق منذ هزيمة مصر عام 1967 لأن هذه الهزيمة كانت ضرورية لدول المنطقة المعادية لمصر والدائرة فى فلك الولايات المتحدة .وهناك وثائق كثيرة ظهرت تثبت التواطؤ بين بعض الدول العربية والولايات المتحدة حين كان عبد الناصر يمثل الخطر عليهم وحدث ذلك أيضاً مع صدام حسين ويحدث مع سوريا واليمن.
ومن الطبيعى أن تحدث بعض المشكلات الخفيفة بين الدول الصغيرة وبين الدولة القائد صاحبة الاستراتيجية العالمية. وقد ظهر ذات يوما منذ عقدين من الزمان أن واشنطن تسعى دائماً إلى إحكام قبضتها على مصر خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ولذلك فإن استقلال مصر يهدد الاستراتيجية الأمريكية وهذا هو أحد أهم الأسباب التى دفعت واشنطن إلى القضاء على ثورة 25 يناير متوهمة أن الشعب المصرى قد استسلم لقدره، رغم بعض الترهات التى يرددها الإعلام المصرى البائس حول هذه الثورة النادرة فى تاريخ مصر من الناحية الإستراتيجية لأن هذه الثورة لو نجحت لنقلت مصر إلى مرتبة تركيا ولاحتكت مصر حتماً بإسرائيل ولكن ضرب هذه الثورة كان طبيعياً، وكان طبيعياً أيضاً أن تتحول مصر بكل قوتها نحو إسرائيل.
ولماذا لم يتحدث المسؤولون المصريون عن العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل ويكتفون بترديد أن القضية الفلسطينية هى جوهر الأمن القومى المصرى والعربى وهو صحيح من الناحية الموضوعية لكن العلاقات بين مصر وإسرائيل فى نظر الاستراتيجية الأمريكية هى الاساس فى أى علاقات بين مصر والولايات المتحدة، ولايتردد المنظرون الأمريكيون في الإشارةإلي أن علاقات مصر مع واشنطون علاقات تابعة لعلاقة مصر بإسرائيل rapports derive
فالعلاقات المصرية الأمريكية هى علاقات مشتقة وليست قائمة بذاتها وهى مشتقة من العلاقات المصرية الإسرائيلية وهذا ليس سراً وأى محاولة لاستقلال مصر عن إسرائيل سوف تناقض ما هو مخطط وهو المزيد من الوجود الأمريكى والإسرائيلى السياسى والعسكرى فى القرارات المصرية ويعتبر مكافحة الإرهاب هو الغطاء الأوسع للعلاقات الثلاثية مادامت واشنطن هى القائد الأعلى العالمى لمكافحة ما يسمى بالإرهاب وهي الصانعة له.
وإذا تفحصنا العلاقات بين مصر والدول الأخرى التى تقول مصر أن لها معها تحالف استراتيجى لوجدنا تناقضاً كاملاً وتضارباً فى النتائج يسبقه ارتباك فى الرؤية. ولن نفصل فى هذه النقطة ولكننى اتحدى أى باحث أن يكتب سطرين فقط فى تطور العلاقات المصرية مع أى من هذه الدول فذلك أمر يستعصى على الباحثين. وخلال عصر الرئيس مبارك كان موقفى دائماً فى مجال العلاقات الخارجية لمصر هو أن كل قرار فى مجال السياسة الخارجية يجب أن نوضح ما هى المصلحة المصرية للمجتمع والدولة وليس للنظام فى هذا القرار وبعد ذلك فإن تأييده ودعمه يصبح حتمياً أما إذا بنى النظام حساباته ومصالحه مع الدول الأخرى بما يضر المصالح الدائمة لمصر يحدث الانفصام بين النظام والدولة ولا يستطيع النظام أن يتحدث باسم الدولة مهما زعم من وجود مؤسسات وقوانين وهياكل مفرغة لدولة قائمة وهو نفس المعيار الذى أتبعه مع أى نظام بعد مبارك حتى الآن.
والراجح بالنسبة للباحثين أن مصر فى هذه المرحلة تتخذ مواقف بناءاً على حسابات لا يفهمها المراقب ولا رقيب عليها ولا يفهمها إلا الدول الأخرى المستفيدة من هذه المواقف وقد استحال علينا أى فهم لها فى سياق المنطق العادى للأمور وغلب الظن على أن منطق الصفقات هو الذى يفسر هذه المواقف. وليس عيباً أن يكون هناك منطق الصفقات بشرط أن تكون فى اطار رؤية بعيدة المدى تستند إلى المصالح الاساسية لمصر ولكن بعض الملفات تجعل الحكم على هذه المواقف رهناً بنتائجه وهذه الملفات هى تيران وصنافير وسيناء والضبعة والسياحة والاقتصاد والإرهاب والحريات رغم أن المسؤولين يصرون على أن القرارات فى صالح مصر وأن الخير قادم فى القرن القادم.
سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 24/7/2020