لا أحد ينكر الدور الهام الذي يلعبه المعلم في مجاله، وما من عملية تعلم إلا والمعلم هو جوهرها.. إلا أن هذا الدور بدأ يتقلص مؤخراً، ويتراجع عما كان عليه في عقود زمنية سابقة.. ولهذا باتت المؤتمرات تعقد لدراسة هذه الظاهرة الطارئة التي أخذت تنتشر بقوة في أغلب المجتمعات نتيجة التطور التكنولوجي، وقد أصبح سيد الموقف في مجالات لا تعد، ولا تحصى، ومن بينها التعليم الذي هو الأساس في تنمية العقول وتحصينها، وتحقيق التقدم العلمي.
أما لماذا تقلص هذا الدور، وبات الاستغناء عن المعلم إلى حد ما وارداً، فليس بالأمر المستغرب بعد أن أصبح تلقي التعليم يتم عبر شبكة المعلومات ومنصاتها المخصصة للتدريس، وقد انتعشت هذه المنصات في الآونة الأخيرة وقد غدا التعلم عن بعد ضرورة لابد منها ضمن الإجراءات الصحية التي فرضت نفسها للوقاية من بلاء الوباء.
إلا أن أسلوب التعليم التقليدي الهادئ، والممتد لعدد كبير من السنوات، هو برأي بعض الخبراء لم يعد يتناسب وعقلية أجيال اليوم، وسرعة تفاعلهم مع المحيط الخارجي، ودرجة استيعابهم التي تطورت بشكل واضح، إلى جانب تداولهم للمعلومات من خلال الأجهزة الذكية التي اعتادوا استخدامها منذ أعمار صغيرة جداً، وأدت بالتالي إلى تنمية المهارات المختلفة لديهم، وساعدت على تحفيز الخيال، وهذا بدوره جعل بعض الدول الغربية تفكر جدياً في اختصار مراحل التعليم، وتكثيفها في سنوات أقل مما هي عليه الآن، وإدخال مواد تدريسية جديدة إلى المناهج فيها التركيز على مادتي العلوم، والرياضيات، إضافة إلى مواد أخرى كإدارة الوقت، وكيفية اتخاذ القرار، وغيرها مما تفتحت آفاقه في العصر الحديث، وذلك بهدف اللحاق بقطار العلم السريع.. وليس هذا فحسب بل إنه التعليم النوعي أيضاً الذي ازدهر مؤخراً بما يتيح للطالب الالتحاق بما يرغب به من تخصص في مراحل مبكرة من مسيرته الدراسية قبل التحاقه بتحصيله الجامعي، وكأن الاختصاص بات يتحقق لصاحبه حسب رغبته لا بناءً على علامات يحصلها.
من المعروف أننا كلما صغرنا الفجوة بيننا وبين معرفة التكنولوجيا المعاصرة كلما قربنا المسافة بيننا وبين عجلة الحضارة، وهذا يبدأ من التعليم الأساسي لاشك، والتعليم المبتكر الذي تسعف مدارسه الحديثة بحلول جديدة، كأن يرتبط التعليم باللعب مثلاً عند صغار الأطفال، كما إدخال مواد جديدة إلى المناهج كالمسرح، وباقي الفنون، والأدب، كمواد مكملة لما يدرسه الطالب من مواد العلوم، والرياضيات، والتقنية، وغيرها، ذلك لأن كل مجال يعزز المجال الآخر أخذاً وعطاءً، وكجناحي طائر لا يمكن لأحدهما أن يحلق بالجسد بمفرده.
إلا أن نظم التعليم الجديدة هذه لا تستغني عن المعلم بالتأكيد مهما كان دوره محدوداً، فحضوره لا يزال مهماً لتوجيه عملية التعليم في مسارها الصحيح، ولكن التساؤل الكبير الذي يفرض نفسه في هذا السياق مادام التعلم بات أغلبه يتم عن بعد لا عن قرب: فهل دور المعلم ينحصر فقط في تدريس المنهاج المدرسي، أم أنه المربي أيضاً إلى جانب مهمته الأساسية؟ بل إنه النموذج الحي الذي يقتدي به الطلاب في تفاعله الإيجابي معهم أخذاً وعطاءً، وهو الذي يوجّه، ويقوّم، ويضبط السلوك، ويغرس القيم، وهو الذي يرعى طلابه حسب قدراتهم، وإمكانياتهم الفكرية، والنفسية.
كل هذه الأدوار التربوية، وغيرها، يلعبها المعلم بصورة عفوية في سياق مهمته الأساسية، إلا أنه في ظل تغيّر نظم التعليم، وأساليبه الحديثة بعد توظيف التقنيات في العملية التعليمية فقد أصبح مطالباً بدور جديد أكبر، وأكثر ابتكاراً، وتماشياً مع روح العصر لتحقيق الغاية المثلى في التربية إلى جانب التعليم.. فهل بعد ذلك نستطيع الاستغناء عن المعلم مهما طرأ على دوره من تغيير؟
(سيرياهوم نيوز-الثورة٢-٧-٢٠٢١)