فرح مرقه:
جنح الرئيس التونسي قيس سعيّد ببلاده ناحية حلف خصوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعدما استطاع برلمان بلاده افشال مبادرة لاعتراف فرنسا باحتلال بلاده والاعتذار عنها، الأمر الذي فتح له بوابة الاليزيه بعد عشرة أيام فقط، ليلي ذلك زيارة يونانية، وتقدير لمبادرة الليبية في حلف أعداء أنقرة ووعود كثيرة بمساعدات ومشاريع.
قيس سعيد بدا ومبادرته الليبية كطوق نجاة افريقي لفرنسا وحلفائها، بعد انكشاف في الموقف المصري منذ تصعيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتدخل العسكري في ليبيا ورسم خطوطه الحمراء في الجفرة وسرت.
بالمقابل، ظهر سعيّد وهو يقتنص الفرصة الذهبية، والتي قد تخدمه داخليا قبل خارجيا وهو الذي تشهد بلاده احتجاجات اقتصادية متتالية، وحالة عدم استقرار برلمانية سياسية بالتزامن.
بهذا المعنى، ومنذ أطلق سعيّد تصريحاته الجدلية حول إيجاد مكونات شرعية في ليبيا أكثر من حكومة الوفاق ذات الشرعية الدولية، حوّل تونس إلى مركز اهتمام فرنسي يوناني ولاحقاً قد لا يكون مفاجئاً أن تصبح مركز اهتمام اماراتي مصري روسي.
الاثنين (أمس) استقبل سعيّد في قصر قرطاج وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، والذي أبدى دعم بلاده ووعد بدعمٍ أوروبي لتونس التي اعتبر انها “يمكن أن تلعب دورا بناء إلى حد ما تجاه حل الأزمة الليبية بين الليبيين دون تدخل خارجي أو جيوش أجنبية.”
هذه الزيارة تلحق بزيارة سعيّد نفسه للإيليزيه الأسبوع الماضي، حيث عقد مؤتمرا صحفيا صاخباً بالنسبة للأزمة الليبية مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، إذ قال فيه الأخير: “إن تركيا تلعب دورا خطيرا في ليبيا يتعارض مع قرارات مؤتمر برلين ويهدد الأمن والسلام في ليبيا وكذلك جيرانها إضافة إلى أمن أوروبا”.
في الزيارة المذكورة، وبمتابعة كلام الرئيسين أصر الرئيس الفرنسي على الظهور بصورة “صاحب اليد العليا” في تونس، وتحدث بصورة مطولة عن تونس باعتبارها امتدادا للثقافة الفرانكوفونية، الأمر الذي أثار الكثير من الانتقادات في تونس، خصوصا وهو يأتي بعد 10 أيام فقط من محاولة كبيرة في البرلمان التونسي لتمرير لائحة اتهام لفرنسا تطالبها بالاعتذار عن احتلالها للبلاد.
زيارة سعيّد لباريس عمليا قالت الكثير عن نجاح تركيا في زرع جانب من الخوف في قلب باريس على مناطق نفوذها، إذ اتهم كثيرون أنقرة بأنها كانت صاحبة فكرة تحريك البرلمان التونسي في الخطوة الأخيرة (اللائحة أطلقها ائتلاف الكرامة ودعمتها حركة النهضة بقوة) وبعد سلسلة مشادّات سياسية ودبلوماسية بين انقرة وباريس.
بالعودة للملف الليبي، فقد بدأ الاهتمام الغربي يتزايد مؤخرا بتونس، حيث في نهايات مايو/ أيار الماضي أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “افريكوم” رغبتها في التواجد في تونس ضمن مهام اثارت الجدل ووضحتها لاحقا بكونها تدريبية لتساعد الدولة المتوسطية الجارة لليبيا لحماية امنها من الصراع على حدودها الشرقية والجنوبية.
بهذا الشكل، يكون عملياً الرئيس قيس سعيّد نجح دولياً في تسويق نفسه كصاحب مبادرة مختلفة في ليبيا، وهو ما كان أصلا على قائمة أولوياته منذ بداية توليه الرئاسة وحين التقى معظم القبائل الليبية، وهو الامر الذي لم يلقِ له بالاً عملياً في البداية إلا الرئيس التركي والذي توجه للعاصمة التونسية نهايات العام الماضي والتقى سعيّد وطلب من برلين دعوة تونس والجزائر لمؤتمرها حول ليبيا بداية العام الحالي.
في ذلك الوقت تحولت تونس إلى علامة استفهام كبيرة على الخريطة الدولية، أوصلتها اليوم لأن تكون محط اهتمام من الخصوم في الملف الليبي، إذ تواصل اردوغان هاتفيا أيضا مع الرئيس التونسي عدة مرات منذ الزيارة المذكورة، كما تواصل معه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في بداية ازمة كورونا الأخيرة ولاحقا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في عيد الفطر الماضي (نهايات مايو/أيار).
وبذكر السيسي، فيبدو ان المبادرة التونسية حظيت عمليا بالدعم الغربي، في الوقت الذي تحول فيه الموقف المصري من صاحب مبادرة القاهرة، إلى التهديد العسكري ما أدى لاختلاف النظرة الدولية للدور العلني للرئيس المصري وجيشه في ليبيا، وبات البحث عن بديل له من جيران ليبيا أقرب إلى الواقع، وهنا عوامل كثيرة وقفت الى جوار قيس سعيد بعدما كان الغرب يفضلون القاهرة، بسبب اعتبارهم لسعيد بعيدا عنهم منذ توليه الرئاسة.
بهذا المعنى، حظيت مبادرة الرئيس التونسي قيس سعيّد باهتمام غربي، رغم رفضها من حكومة الوفاق الليبية عبر تصريحات رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، الذي اعتبر ان الحل الافغاني لا يمكن تطبيقه في ليبيا.
وكان طرح سعيد يستند على عدة مفارقات بدى فيها وكأنه لا يعترف تماما بشرعية حكومة الوفاق الوطنية وهو يقول من باريس، ان “السلطة القائمة في ليبيا تقوم على الشرعية الدولية (…) هذه الشرعية لا يمكن أن تستمر لأنها شرعية مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة تنبع من إرادة الشعب الليبي”.
وتطرق سعيّد في هذا الخصوص إلى المبادرة التي قادها شخصيا بجمعه أكثر من 35 من زعماء القبائل الليبية في قصر قرطاج (ديسمبر/ كانون الأول 2019)، ودعوته لهم لوضع دستور شبيه بالدستور الأفغاني يكون بمثابة “محطة انتقالية” يقررها الليبيون، دون تدخل جهة خارجية.
بالنظر للتفاصيل المذكورة، تتحول تونس بصورة غير قابلة للتأويل هذه المرة لدولة مفتاحية في المنطقة، ويبدو أن ما ستجنيه العاصمة فيها من الازمة الليبية وتحديدا نزاع الجناح الأوروبي من الناتو مع تركيا هناك قد يكون اكبر من المتوقع، خصوصا وماكرون اليوم يقود مبادرة تطالب الأوروبيين بالتحرك لحماية ليبيا من التدخل الأجنبي الذي يرى ان تركيا هي أساسه.
سيرياهوم نيوز 5 – رأ ي اليوم 30/6/2020