نهلة ابوتك :
يختبر الاقتصاد السوري اليوم مرحلة مفصلية عنوانها الانفتاح، بعد سنوات طويلة من الحرب والانكماش والعزلة. غير أن السؤال لم يعد اقتصادياً صرفاً، بل اجتماعياً بامتياز:
هل يستطيع هذا الانفتاح أن ينعكس تحسناً حقيقياً في مستوى المعيشة، وفرص العمل، والأمان الاقتصادي، أم أنه سيبقى مجرد حركة أسواق لا تصل إلى حياة الناس؟
حركة الأسواق والواقع المعيشي
تتحرك الأسواق تدريجياً، وتزداد وفرة السلع وتنوّعها، وتعود بعض الأنشطة التجارية إلى الواجهة، إلا أن هذه المؤشرات الظاهرة لا تكفي وحدها للحكم على المسار الاقتصادي، ما لم تُترجم إلى استقرار فعلي في الدخل، وقدرة شرائية متوازنة، وفرص إنتاج حقيقية. فالمجتمعات المُنهكة لا تقيس التحولات الاقتصادية بحركة العرض والطلب فقط، بل بمدى شعورها بالأمان المعيشي والاجتماعي.
الشفافية… الغائب الحاضر
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عامر شهدا أن الانفتاح الاقتصادي لا يمكن أن يتحول إلى مسار مستقر دون شفافية كاملة، لا تقتصر على المستثمرين فحسب، بل تشمل المجتمع بأكمله. فغياب قواعد بيانات واضحة حول المالية العامة، والنقل، وميزان التجارة، والتكوين الرأسمالي، ومؤشرات البطالة والفقر، يجعل أي حديث عن جذب استثمار فعلي أقرب إلى التمنّي منه إلى التخطيط.
ويحذّر شهدا من أن الخطاب الاقتصادي العام، حين لا يستند إلى أرقام دقيقة ومعلنة، لا يضعف ثقة المستثمرين فقط، بل يعمّق شعور المواطنين بعدم اليقين، ويغذّي القلق الاجتماعي في مرحلة شديدة الحساسية.
انتقال اقتصادي بلا خريطة طريق
يشدد الخبير على أن الاقتصاد السوري خرج عملياً من نظام اقتصادي موجّه ومتهالك، لكنه لم يدخل بعد في نموذج اقتصادي حر واضح المعالم. فالمرحلة الانتقالية، برأيه، تتطلب إعلان رؤية صريحة تجيب عن أسئلة جوهرية: كيف سيُدار الاقتصاد؟ ما هي القطاعات ذات الأولوية؟ ما حجم الناتج المحلي الحقيقي؟ وما نسب النمو الفعلية؟
غياب هذه الإجابات لا يربك المستثمرين وحدهم، بل يحرم المجتمع من القدرة على تقييم التجربة الاقتصادية، ويجعل التحولات الاقتصادية تبدو كقرارات متفرقة، لا كمسار وطني متكامل يمكن الوثوق به أو البناء عليه.
إعادة تشغيل لا تعافِ
يوضح شهدا أن ما يجري اليوم هو إعادة تشغيل للاقتصاد، لا تعافياً اقتصادياً كاملاً. فاستعادة الوظيفة الأساسية للاقتصاد تعني عودة الحد الأدنى من النشاط، لكنها لا تعني بعدُ نمواً مستداماً أو تحسناً ملموساً في مستوى معيشة الأسر.
هذا الفارق، وإن بدا تقنياً، ينعكس مباشرة على المجتمع، لأن التعافي الحقيقي يُقاس بفرص العمل، والاستقرار السعري، وتراجع معدلات الفقر، لا بمجرد حركة الأسواق.
شراكة مشروطة بالإدارة الرشيدة
وينبّه شهدا إلى أن القطاع العام ما يزال يشكّل رصيداً مهماً للدولة، شرط إعادة إدارته بعقلية حديثة ونزيهة، تحافظ على ملكية الدولة دون تحويله إلى عبء أو التفريط به لصالح قوى احتكارية.
في المقابل، يبقى القطاع الخاص ضرورياً لتحريك عجلة الاقتصاد، لكن ضمن ضوابط واضحة تضمن الإنتاج والاستمرارية، لا المضاربة السريعة، فاقتصاد ما بعد الحرب لا يحتمل تجارب مرتجلة أو مكلفة اجتماعياً.
الاستيراد بلا إنتاج… وصفة لتفاقم الفقر
يحذر شهدا من أن التوسع في الاستيراد دون استراتيجية واضحة لدعم الإنتاج المحلي لا يعني انتعاشاً اقتصادياً، بل يفاقم العجز التجاري، ويضغط على الليرة السورية، ويؤدي إلى ارتفاع البطالة والفقر، بما يهدد الاستقرار الاجتماعي بشكل مباشر.
كما أن الفجوة المتزايدة بين الاستيراد والتصدير تستنزف احتياطي القطع الأجنبي، وتضعف قدرة البلاد على إعادة الاندماج في النظام المالي العالمي.
الأموال النائمة… فرصة ضائعة للنمو
يؤكد شهدا أن الشركات المساهمة العامة المقفلة، وصناديق الاستثمار، والأسواق المالية، تمثّل أدوات فعّالة لتحريك المدخرات المجمدة داخل المنازل، وتحويلها إلى استثمارات منتجة.
لكن غياب استراتيجية واضحة لتفعيل هذه الأدوات حتى اليوم يعني أن جزءاً كبيراً من رأس المال الوطني ما يزال خارج الدورة الاقتصادية، في وقت يحتاج فيه المجتمع إلى كل فرصة عمل وكل مشروع إنتاجي.
انفتاح تحت الاختبار الاجتماعي
في المحصلة، لا يُقاس الانفتاح الاقتصادي بفتح الأسواق وحده، بل بقدرته على حماية المجتمع من الهشاشة، وتخفيف الضغوط المعيشية، وبناء اقتصاد قادر على المنافسة دون أن يدفع المواطن كلفته وحده.
فالانفتاح، في هذه المرحلة، ليس وعداً مفتوحاً، بل اختباراً حقيقياً: إما أن يتحول إلى مسار يعيد الثقة والوظيفة والاستقرار،أو أن يبقى حركة اقتصادية بلا أثر اجتماعي ملموس.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
